vendredi 30 novembre 2012

اللحم الحي



أفاق على صوت أخيه يصرخ في أذنيه و الدم ينسال من فمه و عينيه : " ايصير دمي بين يديك ماء؟ لا تصالح ، لا تصالح و لو منحوك الذهب ، أترى حين افقأ عينيك و أثبّت جوهرتين مكانهما ، هل ترى ؟؟؟؟ هي أشياء لا تشترى... "
كان قلبه يخفق بسرعة جنونيّة وشرايينه تكاد تنفجر ، مسح حبّات العرق المتصبّبة على جبينه ، تناول جرعة ماء من الكأس المغطّى إلى جانبه و تنهّد بعمق . استغفر ربّه و قرأ بعض الآيات ثمّ تمدد قليلا حتى يسترجع أنفاسه في هدوء ، طبعا لن يعود للنوم من جديد ، هذه سنّته منذ ذلك اليوم ، يضع رأسه على الوسادة و يطالع السقف في ذهول و كأنه يراه للمرّة الأولى. منذ الحادثة لم تهجره هذه الكوابيس ، ينام و يصحو على نفس الهاجس كل ليلة ، ترى من هو المسؤول الحقيقي و كيف السبيل إلى الثأر . إذا نسي كل العالم القضيّة هو لن يستطيع أن ينسى و لن يستطيع أن يزايد على دم أخيه كما يفعل أبناء عمّه اليوم.
حمل صورة الصّبي الشهيد ، نظر إليها في تأثر بالغ و بكى ، في كل ليل يبكي حتى الفجر و لم يسعفه الدمع يوما في التخفيف من الحرقة المتأججة داخله . ماهو الذنب الذي اقترفه هذا الملاك حتى ينتهي به المطاف بشظية تخترق جمجمته و تفجر رأسه ككرة من قماش . لازال إلى اليوم يذكر ضحكته البريئة و صوته الطفوليّ و هو يتلو القرآن في خشوع أو يستعرض جداريّة دروش في زهو ، لازال كلّما اغتاله الأسى في هذه الليالي السوداء يعالج جرح الكوابيس بقراءة دفتر المذكرات ، دفتر صغير ، جمل بسيطة و أحلام رغم سذاجتها تعني الكثير ، لم يكن يرغب سوى في حياة كالحياة ، أحلامه لا تتعدى رغيف خبز ساخن و قميص جديد في العيد ، أحلام لا تتجاوز في منتهاها مدرسة و ملعب كرة قدم فسيح و بضع كرات من البلاستيك .حينما مات حسام لم يكن يحمل في يده بندقيّة أو حزاما ناسفا ، كان يحمل حقيبة صغيرة مهترئة و كرة من قماش صنعها بيديه حتّى يتسنّى له اللعب مع الأصدقاء. لم يكن يبالي بحرارة الجو و لا بالهدوء الذي كان يسبق الحرب ، لم يكن يثنيه تحذير الأهل و لا نشرات الأخبار التي تنبئ بأنه لا مفر من القتال و ساعة الصفر قد تحين في أي وقت ، كلّها كانت بالنسبة له مجرّد خزعبلات . لذلك حين انتهت حصص الدراسة لم يعد مباشرة إلى البيت ، حمل كرته و انسحب مع رفاقه الى الملعب الخلفي ، رمى محفظته في أقرب ركن و انطلقوا في لعبهم المحموم غير مبالين بالمؤامرات و لا بخطابات السياسيين و الخزعبلات .لكن هذه المرّة كان القدر سيّد القرار لتنطلق صافرة النهاية باكرا ، قبل الأوان و لتنتهي المباراة لأول مرّة بهزيمة الفريقين . لذاك لا تحاول أن تبحث عن الجواب ، فليس في قتل الأطفال شيء من المنطق ، الجميع هنا مذنبون و لكي يبعدوا التهمة عن أنفسهم ، أخذوا يتهمون الكرة بالعمالة ، الركلة كانت قويّة بعض الشيء و كرة القماش هشة أكثر من اللازم حملها الريح فتجاوز سور المدرس و بما أن حسام صاحب الكرة و قد تعب كثيرا حتى تحصّل عليها خاف أن يلتقطها أحدهم و يسرقها فانطلق مسرع ، قفز فوق السور برشاقة و حماس ، كان يريد أن يستغل كل دقيقة في اللعب ، اجتاز الطريق بحذر و هدوء ، نظر إلى السماء أعجبه شكل الغيوم ، إستشعر رطوبة النسيم وانحنى على الكرة و لكن قبل أن تلامسها أنامله دوى الانفجار ، انفجار كبير سمعه حتى السكان في آخر الحي .وحده حسام لم يسمع شيء و لم يحس بشيء لأن الشظية فاقت سرعة الصوت و اخترقت رأسه و حوّلته إلى فتات . لم يرفع حسام رأسه من جديد ، من يعرف ؟ ربما كانت آخر أمنياته أن يرى السماء مرّة أخرى ، أن يودّع الغيمة و يشكر النسيم قبل الرّحيل ، لكن الشظية الغادرة لم تعطه الفرصة و لم ترحم براءته . رحل حسام في ذلك اليوم و رحل بعده آلاف الأطفال ، احترقت كرة القماش و تحوّل ملعب المدرسة إلى ساحة أشباح و مرتع للجرذان . رحل كل اللذين نحبهم و لم يبقى سوى صنّاع الحرب يتفرجون على أنقاض خرابهم و يشربون نخب انتصاراتهم الواهية



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire