vendredi 7 décembre 2012

سليانة تحكي


"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة ، على هذه الأرض ما يكفي من قمح و ماء كي يطيب العيش و من نسيمها  يستمد أهلها طيبتهم و يسعون إلى الحياة كلما استطاعوا إليها سبيلا . لكن رغم كل هذا العشق لطالما خذلهم الحظ  فمنذ أن أحرقت قرطاج و رش على ترابها الملح نفذت اللعنة إلى قلب الأرض و أقسمت أن لا يحكمنّها إلى الطغاة ، لعنة الرّومان تلك لازالت تلحقنا إلى اليوم ."
كانت هذه آخر الكلمات التي قرأها حسّان لكاتب مغمور على جدار صفحة مغمورة من صفحات الفايسبوك ، قبل أن يتفطّن أنه قد نسي الإضراب و موعد التجمّع أمام الولاية . ارتدى قميصه بسرعة ، حمل الكاميرا الرقميّة بيمناه و أشعل سيجارة في اليد اليسرى و انطلق إلى باحة الولاية .  كان يتقدّم في حماس و صوت الهتاف يستفزّه و يحثه على الإسراع في الخطى ، كان صراخ الحناجر يقتحم كل شوارع المدينة  ، يستفز كل البشر و يحرك داخل النفس ذلك الضمير المغيب و ذلك الإحساس بالواجب تجاه هذه الأرض . حين وصل الساحة كان الجميع متجمهرين أمام الولاية ، يتدافعون و يتزاحمون و يهتفون ، رافعين شعارات ضد الوالي و الحكومة و كل من يمتصّ دماءهم و يقامر برغيفهم و قوت أولادهم . كل المدينة كانت هناك ، كل فآت الشعب ، أساتذة ، معلمون ، أطبّاء و ممرضون ، عمال ، فلاحون ، حتى موظفو الولاية نفسها كانوا موجودين  أما الصدارة فكانت طبعا للمعطّلين . حين ترى وجوههم الكالحة و ملابسهم الرّثة ، حين تعاين ملامحهم الغاضبة و أصواتهم الملعلعة و هي تهتف بشعراتهم الخالدة و تتبادل مع رجال الشرطة قصفا من الكلمات النابية ، عندها فقط ستدرك مدى الحقد و القهر الذي يعشش في قلوبهم ، ستدرك مدى تعبهم و مدى استعدادهم للتضحية من أجل  حياة كريمة ، من أجل حياة كالحياة ، لقد ارهقهم الظلم و أتعبتهم سخرية القدر ، خصوصا عندما يخرج ذلك الشخص الذي يسمى نفسه وزيرا و يعلن على اكتشافاته الفذّة في علم الاجتماع و التنمية فتصبح البطالة في قاموسه إشكالا برجوازيا و  افضل طريقة لتشغيل الشباب المجاز  هي نفيه إلى الضيعات في موسم جني الزيتون .
وقف حسّان للحظات مأخوذا بالمشهد ، لكنّه سرعان ما تمالك نفسه و أخذ يبحث عن مكان مناسب يستقر فيه كي يتمكّن من تصوير الأحداث جيدا ، و بينما كان الفتى يجول بين المتظاهرين ، يأخذ بعض الشهادات و التصريحات و يصور بعض المواقف كان الوضع يميل شيئا في شيئا إلى الصدام ، بدأت الأجواء بالاحتقان و بدأت وطأة الشعارات تحتد و انطلق التدافع بين الصفوف الأمامية للمظاهرة و رجال البوليس . كان حسّان يصوّر كل هذا في تأثر و حماس بالغين ، رغم أنه لم يكن مطمئنا لأن الأجواء وصل بها التشنج إلى أقصاه و بدأت تنبئ بالانفلات ، و هذا كان واضحا من تغيير رجال البوليس لمراكزهم و شكل توزيعهم و قد لاحظ الشباب هذا فأخذوا هم أيضا يعدون العدّة للصدام .
الجميع مستعد و كلى الطرفين ينتظر الحدث القادح الذي لا نعرف من أين أتى ، أكان حجرا من شاب طائش أم فنبلة غاز من شرطي ، لا يهم كلها أسباب و النتيجة واحدة ،  تحوّلت شوارع سليانة  إلى ساحة صراع ، ضباب الغاز يغطي كل المكان ،  الجماهير تتراكض هنا وهناك ، و كتائب البوليس تنطلق كالضباع الجائعة لتنهش لحم كل من يخونه الحض و يقع فريسة بين ايديهم . كل هذا كان متوقعا و منتظرا لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن البوليس اليوم غير الخطّة ، لم يعد هدفه الاعتقال بل صار التنكيل خصوصا بعد أن وفرت لهم قطر ، البلد العربي الشقيق ما يلزم للقيام بالواجب ، غازات من نوعا جديد و مفاجأة الموسم : رصاص الرش الشهير ، لتكون الكارثة في اقصى تجلياتها .
  في كل هذا الخضم كان حسّان ينطلق ملثما من شارع إلى آخر ، حاملا سلاحه المعهود ، كاميرته الرقميّة يصور كعادته في كل تحرّك ما يعجز الصحفيّون عن تصويره  ، و تريد السلطة تغطيته من جرائم .  كان يصوّر الكر و الفر بين الشرطة و الشباب  ويحاول أن يقترب قدر المستطاع و أن يركز على وجوه جلاديه لكنه هذه المرّة لم يكن حذرا كالسابق فقد جرّه الحماس إلى الاقتراب أكثر من اللازم و كشف نفسه بشكل مباشر ، كان يحضّر الآلة للتصوير و قبل أن يرفعها إلى عينيه شعر بوهج من نار يخترق وجهه و صدره ، يذيب جلده و تنخر عظامه   . كانت صرخته عالية ، إلى درجة أن الهاربين في آخر الشارع  و القابعين في بيوتهم سمعوها بوضوح و ارتجفت لحدتها قلوبهم . عاد الجميع نحوه ، كثفوا الضغط على الشرطة حتى تراجعوا بينما حمل الشباب حسّان على أذرعهم . كان يصرخ و ينزف بشدّة لكن رغم الألم كان متشبثا بآلة التصوير كما يتشبث الإنسان بالرمق الأخير من الحياة ، ضل يمسكها حتى عندما أدخلوه إلى غرفة العمليات بالمستشفى الجهوي ، إصابته على المستوى العين كانت خطيرة لذلك اكتفوا بتضميد الجراح و إخراج ما أمكن من الرصاصات من صدره ووجهه ثم قرروا إرساله إلى مستشفى العيون بالعاصمة ، من حسن حظه أنه كان من أول المصابين الوافدين لذلك تمكن من الظفر بالحد الأدنى من العلاج ووجدوا سيارة إسعاف تنقله الى العاصمة .
مرّت الليلة عصيبة على أهل المدينة و لكنها لم  تكن الأخيرة لأن نيران  الثورة عادة إلى الحياة من جديد و قد انتشرت و انتشرت في الهشيم لتقلب عرش الطغاة في كامل أرجاء البلد ،  قد قرر الشعب هذه المرة أن يزحف نحو العاصمة و أن يحرر هذا الوطن من الطغيان و أن يفك لعنة الرّومان و أن يسير في سبيل الحياة . أما حسّان ذلك الفتى الشجاع فقد أفاق بعد ثلاثة ايّام ليجد أن أصدقاءه قاموا بنشر المقاطع التي صوّرها ، تلك اللقطات القصيرة التي عرضت في جميع القنوات و تناقلتها كل الصفحات ، كانت أول و أصدق شاهد على انطلاق ثورة البطون الخاوية ، ثورة المهمّشين المتشبّثين بالكرامة و حقهم في الحياة   . ملايين الناس شاهدوا تلك الصور و بكوا  ، كل أبناء هذا الوطن شاهدوها و تحرّكوا بعدها نصرة لإخوانهم و استكمالا لواجبهم و ثورتهم .  و حده حسّان من حرم لذة رؤية  ما صوّرته آلته الصغيرة ، وحده حرم من أن يرى و لو للمرّة الأخيرة وجه جلاده الذي حرمه البصر ، لا لينتقم منه و لكن ليحتقره و ليثبت له أنه كي نرى الحقيقة لسنا في حاجة إلى البصر بل إلى البصيرة و أن البصر لن ينفعنا عندما يموت الإنسان داخلنا  


صفوان الطرابلسي 
ضد السلطة 2012/12/06

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire