كانت الساعة حوالي
الخامسة و النصف ، حين أغلقت المكتب و خرجت من العمل و أنا أفكر في حمّام ساخن و
عشاء عائلي لذيذ ينسيني تعب يوم من العمل في سلك الإدارة المضجر ، يوم من الصّراع
ضد الرّتابة و ضد التعفن خلف مكاتب نخرها السوس حتّى النخاع . خرجت إلى الشّارع و أنا
أمنّي نفسي بهذه الخيالات التي يعتبرها البعض بسيطة و ساذجة لكنّها تلخّص متعة
الحياة بالنسبة لموظّف من الدرجة الخامسة يحاول أن يكون شريفا قدر المستطاع و
قد قارب الأربعين دون أن ينجح في إتمام أي مشروع حياتي و لا حتّى تكوين
أسرة تقليدية كباقي الخلق . لكن ما إن وطأت قدمي الرّصيف حتّى بدأت ألحظ حالة غير
اعتيادية ، حالة احتقان مستتر ينبئ بانفجار قريب و مهيب .
في البداية لم أفهم السبب لكن ما إن وصلت إلى محطّة الحافلات
حتّى تجلّى الأمر أمام عينيّ واضحا وضوح الشمس . كانت الحافلات واقفة على رصيف
المحطّة الواحدة تلو الأخرى ، كموكب مأتمي ، صامتة و كأنها تتلقّى التعازي بينما كان
النّاس يتجمهرون حولها من الأمام و من الوراء يضربون على أبوابها و
هم يصرخون ، يزبدون و يشتومون أما عمّال النقل فقد تحصّنوا في ركن
مقابل محاولين تجنب المحتجّين قدر المستطاع في حين كان
أحدهم يحاول أن يفتح قناة للحوار مع الجمهور الغاضب لتهدئتهم ، لكن كلّما اقترب من
هدفه قليلا و أخذ اللغط بالانخفاض يبرز سائق شاب و يردّ الشتائم
الجمهور بأقذع منها لتعود المفاوضات إلى بدايتها . المهم أن الجو كان
محتقنا إلى أبعد الحدود و ينبئ بالتطور في أي لحظة و مع أي كلمة خصوصا مع الغياب
التام للأمن ، لذلك قررت الابتعاد بأسرع ما أمكن ، و لكن قبل الرحيل استفسرت أحد
العمّل عن سبب هذه الفوضى فأخبرني أنهم دخلوا في إضراب مفتوح لأن أحد القضاة تسبب
في توقيف زميل لهم دون وجه حق و بطريقة تعسّفّية إثر حادث مرور بسيط كان في
الإمكان أن يمر بمجرّد عمليّة الملاحظة إثر الحادث . لم أجادل كثيرا ، الوقت كان
متأخرا و من الصعب العثور على وسيلة نقل أخرى كما أنيّ كنت منهكا إثر يوم عمل مقلق
لذلك اتصلت بأحد أصدقائي ، كان يقطن في حي شعبي في احد ضواحي العاصمة القريبة و
انطلقت في طريقي مشيا على الأقدام . وصلت إلى المنزل متعبا و مستنزف الأعصاب و لكن
في النهاية كان حالي افضل من غيري، على الأقل ضفرت بمكان للنوم رغم أنّي كنت مشتاقا لذلك
الحمّام السّاخن و العشاء على الطاولة المستديرة للعائلة على نغمات تشكّيات
الوالدة من غلاء المعيشة و التحليلات السياسيّة الفذة للوالد الذي لا
يزال إلى اليوم مقتنعا أن الحكومة تخاف الله و أنها تعمل على إنقاذ البلاد بينما
يحاول ملحدوا اليسار تعطيلها بأي طريقة حتّى و لو كان ذلك بحرق البلاد و العباد .
المهم أغمضت عيني
تلك اليلة على شريط الأخبار و تداعيات إضراب عمّال النقل و فتحتها على
نفس العناوين يصدّرها اضراب عمّال النقل ، شربت قهوتي بسرعة و نزلت و أنا أحس ببعض
الانتعاش ، لذلك قررت أن أذهب للعمل سيرا على الأقدام خوفا من أن يصادفني سائق
سيّارة أجرة ركيك يعكّر مزاجي و يفسد بثرثرته صفاء ذهني . وصلت إلى العمل في الوقت
المحدد ، فتحت المكتب ، قرأت الجريدة ، كتبت بعض التقارير ، كان صباحا روتينيا إلى
أقصى ما تحمل هذه الكلمة من معنى . و قبيل منتصف النهار ، خرجت للغداء و اتجهت إلى
المطعم المعتاد في نهج الدبّاغين لكن ما إن اقتربت من المكان حتّى اعترضتني جمهرة
من النّاس يحملون اللّافتات و يهتفون بحل الإتحاد و يقذفون المقر بكل ما تقع عليه
أيديهم بينما كانت دوريّة من بعض رجال الأمن تحاول تطويقهم و إبعادهم . اقتربت
أكثر، كان بي فضول لأعرف ما يحدث رغم أنني كنت متأكدا أنهم كانوا غاضبين إثر إضراب
قطاع النقل ، وجوههم لم تكن غريبة ، كانت مألوفة لي لا أعرف أين شاهدتهم من قبل ،
المهم أنني تعرفت على اثنين منهم ، كانا يسكنان في حيّنا و لا أعرف ما الذي أتى
بهما في هذا اليوم القائض كي يهتفوا بشعارات أقسم أنهم لا يفقهون لها معنى و
أضحكني حقا أن بعضهم كانوا يحملون لافتات يسبون فيها بعض السياسيّين المعروفين و
لم أفهم ما دخل الإتحاد في الموضوع ، المهم عجّة بأتم معنى الكلمة و جوقة من
النشاز كل فيها يغنّي على ليلاه .
لكن في هذا الخضم
شيء واحد كان يثير اشمئزازي و حيرتي ، كيف يقف الزّوالي في وجه الزوالي ، و هذا لم
يحصل ذلك اليوم فقط ، حصل في عديد المرّات و قد كنت شاهد عيان إمّا بمحض الصدفة أو
خلال نزولي في بعض الإضرابات القطاعية بإدارتنا ، نشتم بعضنا ، نضرب بعضنا البعض و
في بعض الأحيان نقتل بعضنا البعض ، من أجل ماذا ؟؟؟
لا شيء ، من أجل لا
شيء تهتك الأعراض و تسفك الدماء ، نلقي اللوم على الضعيف لأنه لا حول له و لا قوّة
، بينما الملام الوحيد هي السلطة ، هذه السلطة التي سلبتنا إنسانيّتنا و جعلتنا
نهضم حقوقنا بأيدينا . فكما نهاجم اليوم المضربين لأنهم رفضوا الظلم و تحرّكوا من
أجل حقوقهم في لقمة عيش كريمة سيكون هناك من يهاجمنا حين نفكر نحن أيضا في التحرّك
، و تندلع الحرب بيننا بينما قضيّتنا واحدة ، حرب ليس لنا فيها لا ناقة و لا جمل و
نحن في النهاية من ندفع الضريبة من دمائنا و قوتنا اليومي بينما تجني
السلطة الغنيمة على طبق من ذهب و لا يبقى لنا سوى الكرب . لا أعرف متي سنفتح
أعيننا على الحقيقة و نكتشف أننا في مركب واحدة و أن عدوّنا واحد و هو من يهمش
صراعنا من خلف الستار ؟؟
كان هذا أخر سؤال سألته لنفسي في صمت ، في النهاية تعكّر
مزاجي الذي حاولت أن أحافظ على صفائه طيلة هذا الصباح ، لذلك أزحت
ناضريّ عن كل هذا الهراء و اتجهت الى المطعم القريب لأستمتع بالغداء و من حسن الحظ
أن صاحب المطعم كان خفيف الرّوح و أتحفني ببعض النكت و بصحن " الكفتاجي
العريق " لحقته قارورة كوكا باردة من العيار الثقيل . و لم تمر
بضع دقائق حتّى أعطى الغداء مفعوله المخدّر ، هاجمني ثقل
غريب و رغبة في النوم فاندفعت إلى المكتب مسرعا ، ألقيت كل هواجسي إلى
الجحيم و استلقيت على الطّاولة و حلمت بالحمّام السّاخن و حصّة تدليك من أياد
ناعمة .
صفوان الطرابلسي
2012/11/08
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire