عزيزي رئيس الجمهوريّة ، أتوجّه
إليك بقلب مثقل بالحزن و الذّنوب ، هذه رسالتي الأولى و ربّما تكون الأخيرة لأنني
قررت الرّحيل و لن أعدل عن قراري حتّى لو تطلّب ذلك ولوج المستحيل .لا تذرف الدمع
إذا لم تصلك رسالتي الثانية ، لا تعلّق صورتي على صدرك و لا ترمي
الورود إن ضاعت جثتي في أعماق البحار ، أرجوك لا تغرقها كما أغرقتني ، لتترك
الزهور تعيش فقد يأتي الربيع و لا نشمّ في الشّجر رائحة الثّمر . لتعلم ايضا
أنني لست حاقدا عليك فحقدي لا أهبه سوى لأعدائي الأبطال كما أنني لا أخوض
هذه الرّحلة حبّا في المغامرة و لا من أجل الانتحار، فأنا لم اختار
هذا المسار لأن الهجرة فرض على من عشق الحريّة مثلي ، على من عاش في
وطنه غريبا مثلي ، على من أراد أن يفرد جناحيه كطير و أن يحقق
حلما بسيطا لا يتجاوز لقمة عيش كريمة . و لكن قبل أن أغادر ، قبل أن أنطلق
في رحلة المجهول و حرق الماضي و جميع الذكريات أريد أن أطرح على فخامتك سؤالا
محرجا أو ربّما قد أطيل السجال قليلا لأنها قد تكون آخر الرّسائل و أطرح مجموعة من
الأسئلة لن أنتظر منك أن تجيب عليها لأنني أعرف جوابك مسبقا و حتّى إن كان جوابك
دبلوماسيا و مقنعا فهذا لن يفيدني في شيء لأنني سأكون حتما في مكان آخر حيث لا
وجود للظلم ، بعيدا عن هذه الأرض المباركة ، سأكون عندها قد تحررت من كل ذنوبي و
خطاياي سأكون قد حسمت الصراع و غادرت المعركة مبكّرا .
عزيزي رئيس الجمهوريّة ، بعيدا
عن ما درسناه في كتب الجغرافيا و مراجع التاريخ و حصص التربية
المدنيّة ، ماذا تعرف حقا عن الوطن و عن حب الوطن و عن القلوب المثقّلة
بالشّجن ؟؟؟؟
سأترك لك الوقت الكافي للإجابة
، و لكن قبل تبدأ في كتابة الدّيباجة لخطبتك العصماء و قبل أن تفكّر في جمع
مستشاريك و أخذ الإذن من رئيس الوزراء ، أريد أن أعلمك أنك مخطئ و لا تسألني كيف
قرأت أفكارك ، أنا لست منجّما و لا ساحرا و لكنّكم معشر السياسيين شفّافون أكثر من
اللّزوم و مبتذلون إلى درجة أنني أشعر بالغثيان و برغبة في التقيئ ما إن أنظر في
عيون أحدكم ، كلكم تفكرون بنفس الطريقة مهما اختلفت مراجعكم ، حتى
أنني أفشل في أن أجد وصفا في قاموس البذاءة يصفكم .
أنا آسف إن كانت كلماتي قاسية
بعض الشيء ، فلتعذرني معاليك عن جرأتي المبالغ فيها فأنا كما تعلم لم يعد لديّ ما
أخسره فعمّا قريب سأمتطي المركب و أغادر ، و لكن ألا تعتقد أنها الحقيقة ؟
حقيقة يصوغها إليك الله على لسان جثّة حيّة تبحث عن نبض الحياة خلف البحار.
لا تستعجل !!
سأنبئك الآن بالجواب الذي عجزت عن الوصول إليه لأنك بكل بساطة لم تعشق هذا الوطن
بل عشقت السلطة ، وما تعلّمته في المدارس لم يكن حب الوطن بل حب الدولة ، و الدولة
لم تعني في يوم من الأيّام وطنا . حب الوطن ينمو في أزقة الشوارع و
على ضفاف الأرصفة ، ينمو بين صيحات الخوف و الألم حيث يمارس الفقر عادته
السرّية على شرفنا و يزني بنا الجوع كل ليلة و نضطر رغم ذلك أن نسكت صونا لشرف
زائف ، لأننا لو تكلمنا ستسقط عنّا ورقت التوت و يحاكمنا حرّاس
النوايا بإسم الرّب و تقيم علينا شطرتك الحد و من منّا يتكلّم ... لا أحد .
لذلك يا عزيزي رئيس الجمهوريّة
، يجب أن تعرف أن الشعوب المسحوقة لم تدرس في يوم من الأيّام مناهج الفلسفة
و مراجع القانون و لم تشارك في منتديات السفسطة و لم تتخذ من أفكارها تجارة تعرضها
في أسواق الوهم . إن الشعوب الكادحة تحب أوطانها حبّا عميقا ، حقيقيا و ماديّا ،
حبّا لا يترجم إلى كلمات عابرة تتزاحم في ديباجة ثقيلة الظل . إن قصرك الذي تسكنه
اليوم ، بنته زنود عارية لم تعرف معنى الكساء و سنابل القمح التي يعدّون لك منها
خبزك المركّز زرعته بطون جائعة عاشت و ماتت جوفاء و خمرك الذي تتلذذ باحتسائه كل
ليلة لتسترخي ، عصرته أنامل لم تعرف يوما طعم الرّخاء ، و فراشك سيّدي نعم
فراشك و مكتبك و عرشك الذي تتربع عليه في زهو صنعه رجل ينام على الحصير و
إبنه الذي نقش الزخارف هو هذا الفتى الذي يهب نفسه للموج هربا من نفس المصير
.
عزيزي رئيس الجمهوريّة ، أتوجّه
إليك بقلب مثقل بالحزن و الذنوب ، و أصرخ في وجهك ، نعم لا تستغرب سأصرخ في وجهك
صرخة إنسان جائع يمضي إلى المجهول في ليلة حالكة ، سأصرخ في و جهك و أتحدّاك أمام
كل البشر ، أمام هذا الوطن ، أتحدّاك إن كنت قادرا على النّزول إلى الشارع
دون حراسة ، أتحدّاك إن كنت قادرا أن تنظر في عين عجوز تجمع القوارير في حر الأصيل
، أتحدّاك أن تقف أمام نظرات فتات دخلت السجن بعد أن إغتصبها أعوان الأمن و
أغلق ملفّ القضيّة دون إنصاف الضّحيّة ، أتحدّاك إن كنت قادرا على أن تمنع
شاب من ركوب الموت و الإبحار نحو المجهول ، أتحدّاك أن تقبل الحضور في جنازة
غريق مقهور ، أتحّاك إن كنت قادرا على العيش خارج تلك الجحور فقصوركم ليست سوى
جحور .
عزيزي رئيس
الجمهوريّة ، سأرحل الآن غير آسف على ما خلّفت ورائي ، سأحمل حقيبة ذكرياتي و أمضي
لأحرق الماضي على مهل ، سؤحاول على الأقل أن أنقض ما تبقّى في داخلي من حب للبشر و
للوطن ، سأرحل و الخجل يؤلمني ليس لأن الحنين يغمرني بل لأن سؤالا واحدا يحيّرني ،
و أريد منك إجابة صادقة ، و لو لمّرة حاول أن تكون إجابتك صادقة ، لو قابلت
شهدائنا في مكان ما ذات يوم قريب و سألني أحدهم عن الثمن الذي سالت من أجله
الدماء ماذا تراني أجيب ؟؟؟؟؟
التوقيع
: جثة على وشك الوفات
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire