
وحده كان يجوب الشّوارع في هذا الليل الحزين
، وحيدا كنبيّ منبوذ كان يبحث عن رصيف لم تزره قطرات المطر قبله و لم تأخذه الرّيح
مرتعا لتيّارها . وجد ضالّته بعد بحث ، جلس في الركن المهجور ، أوقف إلى جانبه
عربته المخلّعة ، كان يرتجف بشدّة و لكن ليس من البرد كما يتوقّع من يشاهده
. فتح جيب سترته في تشنّج واضح و أخرج كبسولة " السوبيتاكس" و
حقنة كان واضح أنّها لا تستعمل للمرّة الأولى . أخذ غطاء قارورة ماء فارغة وضعها
تحت المطر لتمتلئ قليلا ثم أذاب الكبسولة فيها . كان يراقبها و هي تتفتت ، حرّكها
بخنصره حتّى تتحلل بسرعة قبل أن تتحلل أعصابه و يخرج عن طوره في موجاته الهستيريّة
المعتادة ، أخذ الحقنة بعناية ، ملأها بمحلوله المسموم و انطلق في رحلة بحثه
المضنية عن شريان صالح لازال للدم فيه نبض داخل هذه الذراع المخرّبة ، وحين
استعصى عليه الأمر و بدأت آلام رأسه و جسده تطلق جرس الإنذار ، انتزع قطعة
قماش من قميصه المهترئ و عصّب بها ذراعه بقوّة لتظهر بعض العروق الصغيرة ، غرز
الإبرة بتشنّج و افرغ داخل جسده سمّ الحياة كما كان يسمّيه . عندها فقط استرخى
قليلا ، أطلق تنهيدة طويلة و تمدد على الرصيف ، الآن فقط في إمكانه أن يستريح ، أن
يسترجع بعض أحاسيسه الضّائعة و يهرب من صقيع الواقع و لهيب الذّاكرة .
كل يوم على هذا المنوال ، حاول أن تتخيّلها
كحياة إنسان يوجد على هذه الأرض . تنقذه الشمس من كوابيسه كل فجر ، يفتح عينيه مع
بصيصها الأوّل ، يدفع عربته و ينطلق في أرجاء المدينة يجمع قوارير البلاستيك ،
يجوب شوارع المدينة شارعا شارعا و قبل أن يأتي المساء و تبدأ أجراس جسده
بتنبيهه ان موعد السم قد حان يتجه إلى المستودع ، يبع ما تمكّن من جمعه و
يشتري بثمنها كبسولة "السوبيتكس" و رغيف خبزا لو تبقّى معه ثمنه . يأكل
الرغيف في طريق البحث عن ركن هادئ للمبيت ، يحقن نفسه بسم الحياة و ينطلق في رحلة
الغياب إلى أن يأتي صباح جديد .
غريب هو أمر هذه المدينة ، في الضّفة الأخرى
نسمع أنهم يشربون السم في بحث عن الموت بعد قصّة حب فاشلة أو إثر نوبة
اكتئاب عابرة و على هذه الضّفّة يستعان بالسم من أجل استمرار الحياة .
لكل منهم سمّه المفضّل و لكل منهم أسبابه المنطقيّة ، لكن لا أحد فيهم فكر في يوم
من الأيّام في مأساة غيره ، كل يرى نفسه المظلوم الأكبر . كانوا يرونه كل يوم ،
يمر من أمام أعينهم ، يتشاءمون منه في كل صباح و يضربونه كل مساء حين
يضبطونه يفرغ قمامتهم و يبحث فيها عن قارورة من البلاستيك . لم يفكّر أحدهم في يوم
من الأيّام كيف وصل هذا الإنسان إلى الحضيض ، كانوا ينتظرون يوم رحيله و تعفّنه
بين أكياس القمامة حتّى يذرفوا بعض الدموع في أمسياتهم و حتى يصبح رمزا
لقضيّة يتاجرون بها في ملتقى جمعيّاتهم . لا أحد يعرف من أين جاءتهم كل هذه القدرة
على تجاهل الأمور ، و الاستهتار بحياة البشر . أتراها حياة المدينة أم أنه
مرض عضال أصاب القلوب ؟
هذه المدينة الفخمة ، هذه المدينة الرّاقية و العريقة . هذه المدينة
بتاريخها الضارب في القدم و صيتها الواسع لم تعد سوى مبغى لأصحاب القلوب المريضة
، لا تغرينّك صور بطاقات المعايدة ، و كلمات السياسيين الزائفة ، كلها زينة
للتمويه أزح قليلا الستار و ستكتشف الحقيقة . هي اليوم كعاهرة تخشى أن تكشف
عورتها المتفسخة. كل يوم على أرصفتها يموت عشرات البشر ، كل يوم تتعمّق المأساة أكثر ، كل ليلة في أزقّتها الخلفيّة ، حيث يمتزج الطّين
بالدماء ، ينام مئات الأطفال دون عشاء و دون غطاء و كما تعرفون أقصى الفصول
في هذه المدينة فصل الشتاء . في هذه المدينة حيث أدمن النّاس الرياء ، كل شيء يباع
و يشترى ، حتى التقوى و صكوك الغفران للآخرة نقتنيها كما الحذاء ، في هذه المدينة
حث يلعن البشر أنفسهم و يعلنون كل ليلة في صرخة جماعيّة مكبوتة عن موت
الإنسان داخلهم ، فالإنسان هنا نادر الوجود و مهدد بالإقراض .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire