dimanche 18 novembre 2012

شوارع الشتاء


الشتاء أقصى الفصول في هذه المدينة ، ترسل الطبيعة العنان لغضبها و تعاقبنا على احتقارنا للحياة و نبذنا للجنون . الأجواء تنبؤ بقدوم أوّل العواصف ، الغيم يكسوا وجه السّماء و يضفي على المدينة طابع الحزن و رذاذ المطر يهطل ناعما كدموع آلهة تضمّد جراح قلب منكسر . ينزل الظلام رويدا رويدا ، ينسحب على الشوارع في هدوء تاركا وراءه صخب أيّام الصيف و جموح أهل المدن في ليال الحر . كل المخلوقات ركنت إلى مهاجعها ، الطيور إلى أعشاشها  ، الأفاعي إلى جحورها و الكلاب في مخابئها بين أكياس القمامة تبحث عن نفحة دفء عابرة و حتّى الإنسان أكثر المخلوقات جرأة و تعنّتا جنح اليوم إلى السلام . كل سكّان المدينة ينعمون بالدفء تحت سقوف بيوتهم ، كل يريد أن يستمتع بذلك الوهج اللذيذ المنبعث من فوّهة السخّان في أوّل أيّام الشتاء . كل سكّان المدينة سينامون اليوم باكرا و يستمتعون غدا بيوم العطلة و بفطور الصّباح العائلي .
وحده كان يجوب الشّوارع في هذا الليل الحزين ، وحيدا كنبيّ منبوذ كان يبحث عن رصيف لم تزره قطرات المطر قبله و لم تأخذه الرّيح مرتعا لتيّارها . وجد ضالّته بعد بحث ، جلس في الركن المهجور ، أوقف إلى جانبه عربته المخلّعة ، كان يرتجف بشدّة و لكن ليس من البرد كما يتوقّع من يشاهده  . فتح جيب سترته في تشنّج واضح و أخرج كبسولة " السوبيتاكس" و حقنة كان واضح أنّها لا تستعمل للمرّة الأولى . أخذ غطاء قارورة ماء فارغة وضعها تحت المطر لتمتلئ قليلا ثم أذاب الكبسولة فيها . كان يراقبها و هي تتفتت ، حرّكها بخنصره حتّى تتحلل بسرعة قبل أن تتحلل أعصابه و يخرج عن طوره في موجاته الهستيريّة المعتادة ، أخذ الحقنة بعناية ، ملأها بمحلوله المسموم و انطلق في رحلة بحثه المضنية عن شريان صالح لازال للدم فيه نبض داخل  هذه الذراع المخرّبة ، وحين استعصى عليه الأمر و بدأت آلام رأسه و جسده تطلق جرس الإنذار ، انتزع  قطعة قماش من قميصه المهترئ و عصّب بها ذراعه بقوّة لتظهر بعض العروق الصغيرة ، غرز الإبرة بتشنّج و افرغ داخل جسده سمّ الحياة كما كان يسمّيه . عندها فقط استرخى قليلا ، أطلق تنهيدة طويلة و تمدد على الرصيف ، الآن فقط في إمكانه أن يستريح ، أن  يسترجع بعض أحاسيسه الضّائعة  و يهرب من صقيع الواقع و لهيب الذّاكرة .
كل يوم على هذا المنوال ، حاول أن تتخيّلها كحياة إنسان يوجد على هذه الأرض . تنقذه الشمس من كوابيسه كل فجر ، يفتح عينيه مع بصيصها الأوّل ، يدفع عربته و ينطلق في أرجاء المدينة يجمع قوارير البلاستيك ، يجوب شوارع المدينة شارعا شارعا و قبل أن يأتي المساء و تبدأ أجراس جسده بتنبيهه  ان موعد السم قد حان يتجه إلى المستودع ، يبع ما تمكّن من جمعه و يشتري بثمنها كبسولة "السوبيتكس" و رغيف خبزا لو تبقّى معه ثمنه . يأكل الرغيف في طريق البحث عن ركن هادئ للمبيت ، يحقن نفسه بسم الحياة و ينطلق في رحلة الغياب إلى أن يأتي صباح جديد .
غريب هو أمر هذه المدينة ، في الضّفة الأخرى نسمع أنهم  يشربون السم في بحث عن الموت بعد قصّة حب فاشلة أو إثر نوبة اكتئاب عابرة  و على هذه الضّفّة  يستعان بالسم من أجل استمرار الحياة . لكل منهم سمّه المفضّل و لكل منهم أسبابه المنطقيّة ، لكن لا أحد فيهم فكر في يوم من الأيّام في مأساة غيره ، كل يرى نفسه المظلوم الأكبر . كانوا يرونه كل يوم ، يمر من أمام أعينهم ، يتشاءمون منه في كل صباح  و يضربونه كل مساء حين يضبطونه يفرغ قمامتهم و يبحث فيها عن قارورة من البلاستيك . لم يفكّر أحدهم في يوم من الأيّام كيف وصل هذا الإنسان إلى الحضيض ، كانوا ينتظرون يوم رحيله و تعفّنه بين أكياس القمامة  حتّى يذرفوا بعض الدموع في أمسياتهم و حتى يصبح رمزا لقضيّة يتاجرون بها في ملتقى جمعيّاتهم . لا أحد يعرف من أين جاءتهم كل هذه القدرة على تجاهل الأمور ، و الاستهتار بحياة البشر .  أتراها حياة المدينة أم أنه مرض عضال أصاب القلوب ؟
هذه المدينة الفخمة ، هذه المدينة الرّاقية و العريقة . هذه المدينة بتاريخها الضارب في القدم  و صيتها الواسع لم تعد سوى مبغى لأصحاب القلوب المريضة ، لا تغرينّك صور بطاقات المعايدة ، و كلمات السياسيين الزائفة ، كلها زينة للتمويه  أزح قليلا الستار و ستكتشف الحقيقة . هي اليوم كعاهرة تخشى أن تكشف عورتها المتفسخة. كل يوم على أرصفتها يموت عشرات البشر ، كل يوم تتعمّق المأساة  أكثر ،  كل ليلة في أزقّتها الخلفيّة ، حيث يمتزج الطّين بالدماء ، ينام مئات الأطفال دون عشاء و دون غطاء و كما تعرفون  أقصى الفصول في هذه المدينة فصل الشتاء . في هذه المدينة حيث أدمن النّاس الرياء ، كل شيء يباع و يشترى ، حتى التقوى و صكوك الغفران للآخرة نقتنيها  كما الحذاء ، في هذه المدينة حث يلعن البشر أنفسهم  و يعلنون كل ليلة  في صرخة جماعيّة مكبوتة عن موت الإنسان داخلهم ، فالإنسان هنا نادر الوجود و مهدد بالإقراض .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire