كان الدكتور عماد الطبيب المستحدث الانتداب جالسا إلى مكتبه في قسم
الإستعجالي، يحاول التغلب على ساعات الليل الثقيلة بالاستماع إلى أغاني فيروز و
ارتشاف فنجان قهوة مرّة ، يطالع بين الحين و الآخر بعض الأخبار على الفايسبوك أو
يحاول حل رزمة من مجلات الكلمات المتقاطعة . ضلّ على هذه الحال من الاسترخاء حتى
باغته ممرّض ليخبره أن إدارة السجون أرسلت لهم سجينا في حالة احتضار .
دخل الغرفة مسرعا ، وجد المساعدين يقومون بالإسعافات الأوليّة ، قدّم له أحد أعوان
الأمن الملف الطبي ، استلمه ثم طلب منه عماد مغادرة الغرفة .
قرأ عماد الملف بتأن و ما ان وقع نظره على الاسم حتى خالجه بعض الشك ، قفز
إلى ذهنه خبر قرأه بأحد المواقع عن حالة تعذيب شاب من مكثر محبوس في سجن المرناقية
بسبب قضية كيدية اثر خلاف مع مسؤول جهوي ، استغرب من حالة التعتيم التي
تهيمن على الحالة رغم خطورتها . رفع ناظريه عن الأوراق ، وجد رئيس الممرضين
واقفا عند السرير باديا عليه التّشنّج بينما المساعدون يقومون بالإسعافات ، كان قد
عاين الكثير من هذه الحالات و خصوصا في بداياته عندما كان ممرضا في عيادة سجن
9 أفريل ، نظر إلى الطبيب بقلق :" الحالة صعبة جدا ، آثار التعذيب
واضحة ، لا أتصوّر أنه سيتمكن من تجاوز هذه الليلة ."
اشاح الطبيب الشاب بنظره عن الممرض محاولا إخفاء ارتباكه و انطلق في فحص
السجين دون أن ينطق بكلمة ، الكدمات و الجروح منتشرة في كامل أنحاء الجسم و قد
تعفنت جرّاء الاهمال ، يبدو أنه على هذه الحالة منذ ايام ، يتنفس بصعوبة بالغة
نظرا لكسر في ضلوعه ، لكن الشيء الوحيد الذي حير الطبيب هو هذا الثقب الذي ينزف في
الأذن اليمنى و الانتفاخ في الكليتين و الركبتين ، يبدو أن الوضع في حاجة الى فحص
دقيق و مطوّل ، خصوصا و أن الحالة في تراجع منذ وصولها .
نظر إلى زميله ، هز رأسه ، كتب شيئا على دفتر ثم بادره قائلا :"
أريدك أن تشرف على الحالة بنفسك ، سأعود إلى المكتب لكتابة التقرير الأولي ،
الحالة خطرة ، و قضيته لها أبعاد سياسية ، لا نريد أن نتورّط في أي مشاكل ، احرص
على أن لا يدخل أعوان الأمن إلى الغرفة و لا تعطهم أي معلومة شافية ، حالة
التعذيب واضحة و سيسعون جاهدين لإخفائها، لا تترك لهم الفرصة "
رد الممرض بعد زفرة طويلة :" لا عليك ، عايشت بعض هذه الحالات في
السابق ، أعرف كيف أتصرّف ، و على ذكر التقرير ، لقد أخبرني أحد الحرّاس أنه يتبول
الدم منذ أيام و قد رفضت ادارة السجن السماح له بزيارة العيادة ، شيء آخر، حينما
وصل كانت معه حقيبة صغيرة بها بعض الأدوية لكنها لم تكن قد استعملت بعد
"
-"
من الواضح أنه قد تم تعذيبه بشكل وحشي و ممنهج ، إهماله كان مقصودا ، لو
كانوا عرضوه على الطبيب منذ البداية و تلقى العلاج ما كان سيصل الى هذه الحالة ،
اذا تمكن من الصمود الى الغد سنجري له فحوصات الأشعّة و مجموعة من التحاليل
، الله الستّار ، تابع الحالة جيّدا ، هذه قائمة الأدوية ، أنهي التقرير على جناح
السرعة و أعود "
دخل عماد مكتبه ، فتح حاسوبه و بحث عن الخبر الضّائع ، نقّب قليلا بين
الصّفحات و أخيرا وجد المقال ، كان قصيرا في شكل خبر عابر " شباب حزب العمّال
يحتجّون أمام وزارة الدّاخليّة إثر تعرض رفيقهم نبيل عرعاري للتعذيب على يد أعوان
الأمن وتعكّر حالته الصّحيّة نتيجة حرمانه من العلاج " لم يعد هناك مجال للشك
، انّه الشخص الذي يحتضر في الغرفة المجاورة .
انطلق عماد في كتابة التقرير ، حاول جاهدا التركيز على عمله و التعامل معه
كأي مريض عادي ، لكنه لم يستطع السيطرة على مشاعره . توقف منذ الجملة الأولى
، كان يشعر بإحساس غريب ، مزيج من القهر و العار . نظر الى نفسه في المرآة
باحتقار ، آلاف الأسئلة تهاجمه دون رحمة ، ترى ما الذي اقترفه هذا الإنسان حتى
ينتهي به المطاف الى هذا المصير ؟ أي نوع من الكائنات هذا الذي يعذب انسانا حتى
الاحتضار و يمنع عنه العلاج الى أن يفوت الأوان ؟ أي بشر نحن الذين أدمنّا الصمت و
العجز و لم يعد لنا من وسيلة للمقاومة سوى البكاء ؟ حتى من ظنناهم يناصرون
الضعفاء ، بان بالكاشف أنّهم لا يساندون سوى القضايا الرابحة فهم لا يبحثون عن
الحقيقة الاّ إذا كان وراءها آلة تصوير توثّق بطولاتهم الواهية . لكن السؤال
الجوهري الآن ، هل ستسمح لنفسك بالصمت عن هذه الجريمة ؟ هل ستقتل الإنسان داخلك و
تسمح بتشويه الحقيقة ؟ أنت تعرف جيّدا أن أمثال هذا المسكين لا يملكون
قنواتا تلفزيّة و لا منظمات برجوازية تساندهم في قضاياهم ، هم لا يملكون سوى
الحقيقة المرّة و ألم الحرقة و عزيمة دافعها الحقد على الظلم و رغبة جامحة في
الإنتقام ، أنت الآن في مفترق الطرق و عليك الإختيار، الي أي معسكر سننتمي ، الحرب
يا صديقي على الأبواب و أنت لا يمكنك أن تكون محايدا وسط كل هذا الخراب .
صفوان الطرابلسي
ضد السلطة في 2012/01/05
safouen 9issa 7louwa mé mafhemtech alech t7ot moumaredh yekchef ala 7alet maridh.je crois t7ot tabib cé mieux.
RépondreSupprimerنعم ، الطبيب هو من قام بعمليّة الكشف ، لكن الممرّض هو من يواكب عمليّة العلاج ، كما أنّه هو أول من استقبل الحالة ، قبل أن يأتي الطبيب
Supprimerالمهم أرجو أن يكون النص قد نال اعجابك :)