بينما يستعد
سكّان العالم للإحتفال باستقبال سنة جديدة يصوغون على شرفها أمنياتهم و يبحثون في أفقها عن
سبب للتفاؤل ، كان الصيّادون القراطن في جزيرة قرقنة من الجنوب التونسي يكتبون
وصاياهم على حائط الميناء و يجمعون ما تبقّى من شبك الصيد و معدّاتهم المهترئة ،.عازمون على المضيّ قدما في رحلتهم المأساوية، "رحلة الموت
والحرية".
قبل أن تخترق
خيوط الفجر الأولى صفحة الأفق ، بدأت الجماهير بالتوافد على ميناء الصيد الصّغير .
رجال و نساء ، شيوخ و كهول و شباب ، حتى الأطفال و الرّضّع حجز لهم مكان في موكب
الوداع العظيم . وقف الجميع على الرّصيف ، منهم من عزم على المشاركة و بدأ في
تجهيز المراكب و منهم من لازال يتشبّث بخيط رقيق من الأمل و يحاول اقناع رفاقه
بالعدول عن خوض المغامرة أما البقيّة فقد وقفوا ساهمين مكتفين بذرف دموع الحرقة و
الدّعاء .
حين ترى المشهد من الخارج ، من فوق سطوح المنازل
المجاورة ، ستظن أنك تشاهد الميناء في ذروة موسم صيد القرنيط ، جلبة كبيرة ،
اكتظاظ و صياح و تدافع ، موسم تزهو فيه النفوس و تكثر فيه المنافع و فيه يحيي الصيّادون مهرجانهم العريق ، لوهلة قد
تصدّق خيالاتك لكنك تتذكر فجأة
ديسمبر2010 حيث تحدّى البحّارة التدجيج الأمني مانعين انتظام الحفل الإفتتاحي
لمهرجان القرنيط وذلك لذات الأسباب القائمة إلى حد اليوم . تنزل الى الرصيف ، لا تسمع فيه كما تعوّدت
صوت الغناء ، لا ترى الصيّادين يرقصون على أنغام "المزود" و لا تسمع
نكاتهم البذيئة و قهقهاتهم الصاخبة ، لن تراهم اليوم يدللون على قفاف غلّتهم و لن
ترى المشترين يتزايدون في صراع . سيصدمك تذمرهم و سخطهم فتتجلى آلامهم في عيون
أطفالهم و ميل زوجاتهم للبكاء في صمت .
ترفع عينيك
لتقرأ لافتة علقها شاب على أحد المراكب " نهج لروما و لا حقرة الحكومة "
. شيخ يقف الى جانبك ، سأله أحد الصحفيين قبل أن يذهب لتوديع ابنه عن الرسالة التي
يريد أن يوجهها للمسؤولين فأجابه بعد أن سحب نفسا عميقا من سيجارته الرّخيصة :
" زيدوا أرقدوا ، الكيس دمرنا و جوّعنا ، هانا باش نهجوا و نخليوهالكم واسعة
وعريضة " . عجوز أخرى بين الحشد تندب
حظّها محاولة منع ابنها الشاب من الصعود الي المراكب التي يجهزها الصيّادون
للإنطلاق . دعوات يطلقها الشيوخ على الظالمين و شتائم ووعيد بالإنتقام من
المسؤولين تسمعها على لسان الشباب . كلما تقدّمت أكثر بين حشود الجماهير كلما
التحمت بأفكارهم و غمرتك قصّتهم ، بسيطة و مؤلمة تجسد واقعنا المبتذل ، صيّادون
بسطاء على مشارف الموت جوعا ، و مسؤولون أغبياء ينامون في العسل مع بارونات المال
الفاسد . المراكب الكبيرة التي تعتمد الصيد "بالكيس" أو "الكركارة
" صحّرت البحر و قضت على لقمة عيشهم و ثروة شعب بأكمله ، مراكبهم الصغيرة و
معدّاتهم البدائيّة لا تمكنهم من منافستهم أو دخول الأعماق مثلهم و الحكومة تغظ في
سبات عميق متعمد و لا مجال لجعلها تستفيق فممثلوها الجهويّون إما متواطؤون أو في
أفضل الأحوال عاجزون عن اتخاذ أي قرار .
سأل مدوّن
يحمل آلة تصوير أحد المنظمين لهذه الرّحلة :" هل استنفذتم كل أساليب النضال ؟
ألم يعد أمامكم سوى الهجرة الجماعيّة؟ "
ابتسم الرجل
رغم يأسه و حنقه البادي على محيّاه :" نحن ننبح كالكلاب منذ سنوات ، منذ عهد
المخلوع ، لم يسمعنا أحد ، اليوم البحر على مشارف التصحّر و نحن لا نملك من المعدّات
ما يمكننا من الدخول للأعماق ، نرى لقمة عيشنا و خبز عيالنا يضيع ، السلطات
تتجاهلنا و صيّادو الكيس يهددوننا ، هذا الوطن لم يعد لنا أصلا ، هل تعرف ماذا رد
الوالي حين سمع عن عزمنا الهجرة ، دعهم يموتون في البحر ، بكل برودة دم ثم أمر أمن
السواحل بأن يتبع الرحلة الى المياه الإقلميّة و يطبق علينا القانون اذا تجاوزنا
الحدود . نحن نعلم أن هذه الرحلة ضرب من الجنون فحتى "الطّليان" رفضوا
استقبالنا ، لكننا مصرّون على عزمنا ما دام هذا التجاهل مستمرا تجاه قضيّتنا ،
وعودهم الكاذبة لم تعد تكفينا ، نحن في حاجة الى الخبز لا الى خطابات و وعود
"
أتم الصّيادون
تجهيز المراكب ، إلى هذه الساعة لم يبادر مسؤول بزيارة المكان ، لم يكن بالميناء
سوى العمدة و بعض المسؤولين الأمنيين ، يراقبون من بعيد في صمت متحفزين لرد
الجماهير أو ربما متعاطفين مع مأساتهم . الحادية عشر صباحا ، إنطلقت رحلة الموت ،
أكثر من مآئة مركب صعد على متنها مئات من الرّكاب ، عائلات بأكملها قررت الرحيل، لا بديل: "يا حشاد يا حشاد الأهالي
غادروا البلاد "
تنويه : ربما
حين ستصلك هذه السطور لن تلقي لها بالا ، ستمر عليها كخبر عابر في موجز الأنباء او
ربما لن تتجاوز قراءة عنوان المقال و أنت تحتسي قهوة الصّباح لأنك تعلم مسبقا أن
المسؤولين سيتوصّلون عاجلا أو آجلا بطرقهم الملتوية إلى إتفاق ، سيقدّمون وعودهم الواهية و رزمة من
الأحلام تعين الصّيادين على الصمود و و في
اقصى الأحوال سيفي قليل من الإرهاب و الترهيب بالغرض .
لكن من المؤكّد سيعيد أحفادنا قراءة
التاريخ الحقيقي الذي ستسجّله الهوامش و سيعرفون أن في عصر أقوى حكومة على مرّ
التاريخ قرر شعب عمره أكثر من ثلاثة آلاف سنة أن يترك أرضه ليفتتح موسم الهجرة الى
المجهول هربا من الظلم و الجوع .
صفوان
الطرابلسي
نشر في جريدة
ضد السلطة 10/01/2013
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire