samedi 12 janvier 2013

رحلة الموت و الحرّية


بينما يستعد سكّان العالم للإحتفال باستقبال سنة جديدة  يصوغون على شرفها أمنياتهم و يبحثون في أفقها عن سبب للتفاؤل ، كان الصيّادون القراطن في جزيرة قرقنة من الجنوب التونسي يكتبون وصاياهم على حائط الميناء و يجمعون ما تبقّى من شبك الصيد و معدّاتهم المهترئة ،.عازمون على المضيّ قدما في رحلتهم المأساوية، "رحلة الموت والحرية".
قبل أن تخترق خيوط الفجر الأولى صفحة الأفق ، بدأت الجماهير بالتوافد على ميناء الصيد الصّغير . رجال و نساء ، شيوخ و كهول و شباب ، حتى الأطفال و الرّضّع حجز لهم مكان في موكب الوداع العظيم . وقف الجميع على الرّصيف ، منهم من عزم على المشاركة و بدأ في تجهيز المراكب و منهم من لازال يتشبّث بخيط رقيق من الأمل و يحاول اقناع رفاقه بالعدول عن خوض المغامرة أما البقيّة فقد وقفوا ساهمين مكتفين بذرف دموع الحرقة و الدّعاء .
حين  ترى المشهد من الخارج ، من فوق سطوح المنازل المجاورة ، ستظن أنك تشاهد الميناء في ذروة موسم صيد القرنيط ، جلبة كبيرة ، اكتظاظ و صياح و تدافع ، موسم تزهو فيه النفوس و تكثر فيه المنافع و فيه  يحيي الصيّادون مهرجانهم العريق ، لوهلة قد تصدّق خيالاتك لكنك تتذكر فجأة ديسمبر2010 حيث تحدّى البحّارة التدجيج الأمني مانعين انتظام الحفل الإفتتاحي لمهرجان القرنيط وذلك لذات الأسباب القائمة إلى حد اليوم . تنزل الى الرصيف ، لا تسمع فيه كما تعوّدت صوت الغناء ، لا ترى الصيّادين يرقصون على أنغام "المزود" و لا تسمع نكاتهم البذيئة و قهقهاتهم الصاخبة ، لن تراهم اليوم يدللون على قفاف غلّتهم و لن ترى المشترين يتزايدون في صراع . سيصدمك تذمرهم و سخطهم فتتجلى آلامهم في عيون أطفالهم و ميل زوجاتهم للبكاء في صمت .
ترفع عينيك لتقرأ لافتة علقها شاب على أحد المراكب " نهج لروما و لا حقرة الحكومة " . شيخ يقف الى جانبك ، سأله أحد الصحفيين قبل أن يذهب لتوديع ابنه عن الرسالة التي يريد أن يوجهها للمسؤولين فأجابه بعد أن سحب نفسا عميقا من سيجارته الرّخيصة : " زيدوا أرقدوا ، الكيس دمرنا و جوّعنا ، هانا باش نهجوا و نخليوهالكم واسعة وعريضة "  . عجوز أخرى بين الحشد تندب حظّها محاولة منع ابنها الشاب من الصعود الي المراكب التي يجهزها الصيّادون للإنطلاق . دعوات يطلقها الشيوخ على الظالمين و شتائم ووعيد بالإنتقام من المسؤولين تسمعها على لسان الشباب . كلما تقدّمت أكثر بين حشود الجماهير كلما التحمت بأفكارهم و غمرتك قصّتهم ، بسيطة و مؤلمة تجسد واقعنا المبتذل ، صيّادون بسطاء على مشارف الموت جوعا ، و مسؤولون أغبياء ينامون في العسل مع بارونات المال الفاسد . المراكب الكبيرة التي تعتمد الصيد "بالكيس" أو "الكركارة " صحّرت البحر و قضت على لقمة عيشهم و ثروة شعب بأكمله ، مراكبهم الصغيرة و معدّاتهم البدائيّة لا تمكنهم من منافستهم أو دخول الأعماق مثلهم و الحكومة تغظ في سبات عميق متعمد و لا مجال لجعلها تستفيق فممثلوها الجهويّون إما متواطؤون أو في أفضل الأحوال عاجزون عن اتخاذ أي قرار .
سأل مدوّن يحمل آلة تصوير أحد المنظمين لهذه الرّحلة :" هل استنفذتم كل أساليب النضال ؟ ألم يعد أمامكم سوى الهجرة الجماعيّة؟ "
ابتسم الرجل رغم يأسه و حنقه البادي على محيّاه :" نحن ننبح كالكلاب منذ سنوات ، منذ عهد المخلوع ، لم يسمعنا أحد ، اليوم البحر على مشارف التصحّر و نحن لا نملك من المعدّات ما يمكننا من الدخول للأعماق ، نرى لقمة عيشنا و خبز عيالنا يضيع ، السلطات تتجاهلنا و صيّادو الكيس يهددوننا ، هذا الوطن لم يعد لنا أصلا ، هل تعرف ماذا رد الوالي حين سمع عن عزمنا الهجرة ، دعهم يموتون في البحر ، بكل برودة دم ثم أمر أمن السواحل بأن يتبع الرحلة الى المياه الإقلميّة و يطبق علينا القانون اذا تجاوزنا الحدود . نحن نعلم أن هذه الرحلة ضرب من الجنون فحتى "الطّليان" رفضوا استقبالنا ، لكننا مصرّون على عزمنا ما دام هذا التجاهل مستمرا تجاه قضيّتنا ، وعودهم الكاذبة لم تعد تكفينا ، نحن في حاجة الى الخبز لا الى خطابات و وعود "
أتم الصّيادون تجهيز المراكب ، إلى هذه الساعة لم يبادر مسؤول بزيارة المكان ، لم يكن بالميناء سوى العمدة و بعض المسؤولين الأمنيين ، يراقبون من بعيد في صمت متحفزين لرد الجماهير أو ربما متعاطفين مع مأساتهم . الحادية عشر صباحا ، إنطلقت رحلة الموت ، أكثر من مآئة مركب صعد على متنها مئات من الرّكاب ، عائلات بأكملها قررت الرحيل، لا بديل: "يا حشاد يا حشاد الأهالي غادروا البلاد "
تنويه : ربما حين ستصلك هذه السطور لن تلقي لها بالا ، ستمر عليها كخبر عابر في موجز الأنباء او ربما لن تتجاوز قراءة عنوان المقال و أنت تحتسي قهوة الصّباح لأنك تعلم مسبقا أن المسؤولين سيتوصّلون عاجلا أو آجلا بطرقهم الملتوية  إلى إتفاق ، سيقدّمون وعودهم الواهية و رزمة من الأحلام تعين الصّيادين على الصمود و و في اقصى الأحوال سيفي قليل من الإرهاب و الترهيب بالغرض .
لكن من المؤكّد سيعيد أحفادنا قراءة التاريخ الحقيقي الذي ستسجّله الهوامش و سيعرفون أن في عصر أقوى حكومة على مرّ التاريخ قرر شعب عمره أكثر من ثلاثة آلاف سنة أن يترك أرضه ليفتتح موسم الهجرة الى المجهول هربا من الظلم و الجوع .

صفوان الطرابلسي
نشر في جريدة ضد السلطة 10/01/2013

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire