في عصور الانحطاط ، حين يصير الابتذال ثقافة و
الرّداءة سمة للعصر ، ينتهي الكلام عن المنطق و يعدم العقل في مهرجانات الهرج و
المرج . " نحن في عالم يجبرنا على ممارسة الحب في الخفاء في حين يمارس العنف
في وضح النّهار" هكذا وصّف جون لينون عصر الانحطاط . لكن ما الذي كان سيقوله
، لو لم يقتله أحد المهووسين بفنّه ، وتمكّن من أن يعيش ليرى ما نعانيه اليوم .
ربّما كان سيفضّل المقاومة في صمت ، حينما يرى سيّارة الشرطة تنطلق بسرعة جنونيّة
في قرية لا توجد على الخريطة و تدهس في طريقها شابا في عمر الورد يعيل عائلة
بأكملها من تجارة السجائر المهرّبة . ترديه قتيلا في لمح البصر أما اخوانه و
ابناء عمومته . يشعر سائقها بارتطام الجثة و تحطم العظام و تشق الرّأس ، لكنّه بكل
برودة دم يواصل الطريق غير عابئ بما اقترفت يداه . الشاب اسمه وحيد الكوني القاطن
في مدينة عقارب من ولاية صفاقس . الإشكال الحقيقي في القصّة ، لا يتمثل في
الحادث ، في النهاية لعب القدر دوره ، و ليس هنالك من يفر من ساعة موته . لكن حين
تتعمّد دوريّة الحرس الوطني الهروب بعد قتل الشاب ، و يتم استدعاء التعزيزات و
التنكيل بالأهالي اثر احتجاجهم على وفات وحيد ، يصبح للحادث بعد آخر . القضيّة لم
تعد موت شاب في حادث مرور عادي ، فهذا الحادث و ما تلاه خصوصا من أحداث، استنزفت
ما تبقى في رصيدنا الخاوي من انسانيّة . "نحن لا ننشد عالم لا يقتل فيه أحد ،
بل عالما لا يمكن فيه تبرير القتل " هكذا قال ألبير كامو عن عصر الانحطاط . هو
أيضا كان ضحيّة حادث مرور أليم ، حرمنا أحد أكبر مفكري القرن العشرين . لكن ماذا
لو عاند قدره و تمكّن من الحياة ، كان سيعرف أن القتل ليس أكبر الخطايا . ماذا
تراه يقول حين يشاهد صابر المرايحي قابعا في السجن ، شاب في الخامسة و العشرون من
عمره ، عامل بشركة السكك الحديدية ، ابن الشعب ، زوّالي عيّاش كما يقولون ، من
الكبّارية أحد الأحياء الشعبيّة في ضواحي تونس العاصمة . صابر اليوم حكم عليه
بالسجن لمدّة عشرين سنة و هو لا يزال قيد الايقاف بعد الاستئناف ، ينتظر مصيرا
مجهولا ، او ربّما لم يعد ينتظر شيئا . يبتسم كلّما مرت أمام عينيه أوراق ملفه ،
كثر الهم يضحّك ، تهمته المشاركة في الثورة و من يتهمه بممارسة العنف شرطي و
الدّليل شريط فيديو منشور على الفايسبوك ، شوهد فيه صابر مع مجموعة من اصدقائه
ايّام الثورة يسبون البوليس . قمّة السخرية ، القدر يسخر منّا كل يوم ألف مرّة و
البوليس يزني فينا كل ليلة و حماة الشعب يقفون على الباب كالقوّادين و يكتفون بالتنصّة
في خجل او ربما في لذّة.
في النهاية اريد أن أتوجّه بكلمة لصابر " الحبس
كذاب و الحي يروّح... " فقضيّته لم تعد اليوم همّا شخصيا ، انها قضيّة شعب
تسرق ثورته أو ربّما ثورة بدأت تأكل أولادها . أمّا حكّامنا الأفاضل فيكفيهم مني
نصيحة أبو القاسم الشابي للمستعمر " حذاري فتحت الرّماد اللهيب / و من يزرع
الشوك يجني الجراح " و ما يزرعونه اليوم في مجتمعنا من قهر و ظلم و تجهيل و
تفتيت ، يتراكم يوما بعد يوم و عاقبته لن تتوقف عند الجراح لأن " ارادة
الشعوب تكره المزاح ".
صفوان الطرابلسي
ضد السلطة في 26/01/2013
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire