mercredi 23 janvier 2013

و اذا الموؤدة سئلت

كانت تنظر إلى وجهها في المرآة ، تحاول اكتشاف نفسها من جديد ، لم تعد منذ ذلك اليوم تلك الفتاة ذات الملامح البريئة و النظرة الصّادقة ، فقدت احساسها بالإنسانيّة و جدوى الوجود ، كانت تتمنّى لو أنها لم تخلق قط ، لو أنها لم تكن شابّة بملامح طفوليّة حائرة و شفتين زهريّتين و عينين كحب اللوز فاتنتين .
لم يضق جفناها طعم النوم منذ الحادثة ، كلّما أغمضت عينيها تراءت لها تلك الوجوه المتوحّشة ككلاب جائعة ، كذئاب يسيل لعابها لرائحة الدم . رائحتهم لازالت ملتصقة بجسدها ، لعابهم المقزز لازالت لزوجته فوق شفتيها و نهديها ، كلماتهم الدّاعرة  تدوّي كل  اليل داخل أذنيها كآذان شيطان . لمساتهم المتوحشة و تضاريس اياديهم تركت آثارها محفورة فوق بطنها و فخذيها و سلخت الدموع خدّيها و طال بها البكاء . لن تستطيع مهما حاولت أن تنسى ذلك الألم المريع عندما اخترقت نيراهم أحشاءها الطّاهرة . لن تستطيع أن تنسى رائحة الدم و لونه حين إخطلط ببقايا الخطيئة في رحمها و سال على فخذيها يرسم طريق الجحيم  و حتّى حين تحاول النسيان تتكفّل نظرات النّاس بتذكيرها أن ما انكسر لا يتم تصليحه على هذه الأرض .
دائما ما كانت تسأل عن ذنبها ؟؟ ماهو يا ترى ؟؟ و لم تستطع إلى اليوم أن تجد له جوابا ، فقط ذنبها أنّها امرأة ضعيفة  ولدت في مجتمع ظالم و مبتذل  جعل شرفه بين فخذيه ، فقط لأنها ترعرعت في مجتمع يسمّي الكبت فضيلة و يقدّس العفّة و يرمي بالعدالة للجحيم ، كل ذنبها أنها وقفت ذلك اليوم في طريق إنسان فاض كأس شهوته و استعار إغتلاما و احترقت قنواته التناسليّة من فرط الصقيع و لمدّة كاد ينسى أنه رجل من فرط الحرمان فأراد أن يبرهن لنفسه أنه مازال كما كان .
كانت تنظر إلى وجهها في المرآة ، تتفحص ملامحها و تحاول أن تقرأ الألم المتخلّد في العينين التّائهتين . بدأت القصّة حين أمرها رئسيها في ورشة  الخياطة أن تواصل العمل هي و بعض زميلاتها بعد الدّوام الأصليّ ، الطلبيّة لم تجهز بعد و التسليم يجب أن يتم في الغد . لم تمانع ، فهذا يعني ساعات إضافيّة و هي في أمس حاجة إلى كل قرش يمكنها جنيه ، لقد صارت المعيل الأوّل للعائلة منذ أن أصيب والدها بالسرطان و لم يعد قادرا على العمل ، و ما تجنيه أمّها من العمل في البيوت لا يكفيهم لسد لقمة العيش و تغطية مصاريف شقيقها الذي يدرس في العاصمة و دواء والدها .
 و حتى لا تثير المشاكل قررت الإتصال بخطيبها حتى تعلمه أنها ستتأخر في العمل ، و لأنّه غيور و شكّاك إلى أبعد الحدود طلب منها أن تتصل به حين تكمل الدوام حتى يمرّ  بسيّارة العمل و يوصلها فالوقت سيكون متأخرا و لن يطمئن قلبه حتى يراها تدخل باب البيت . 
 و كما كان الإتفاق وجدته أمام بوابة المصنع ينتظرها ، كعادته ، يلبس قميص الدنقري الأزرق و يدخن سيجارته في هدوء ، قابلته بابتسامة منهكة ، كان العمل شاقا و طويلا و الحرارة خانقة  ولكنها حين جلست بجانبه نسيت تعبها ، كانت مشتاقة إليه ، إلى رائحته و كلماته ، لم تقابله منذ أسبوع و رسائل الهاتف المتبادلة في ساعات الليل لم تكن تطفئ شوقها . هو أيضا كان مشتاقا إليها لذلك حينما إتصلت به إغتنم الفرصة و أتى مسرعا . تجاذبا طول الطريق أحديث مختلفة و لكن قبل أن يصلا إلى منعطف المنزل كان الجو قد مال إلى الرمنسيّة ، كما كان الشّارع مقفرا و أضواء البلديّة مطفأة  . بدأ الدفء يجتاح أوصالهما و الشهوة تجتاحهما و لكنّهما رغم كل هذا الشوق المتخلّد في الصدور لم يكونا  يطمعان في أكثر من بعض القبلات للذكرى ، حينها أطفأ محمود المحرك و أخذ يداعب شعرها وخدّها و ما كاد يلثم الشفتين ، حتّى سمعى صوت سيّارة توقفت إلى جانبها بشكل عنيف ، نزل منها ثلاثة رجال و فتح أحدهم الباب في عنف و جذب محمود و لكمه فسقط أرضا ، ثم أخذ يركله ، لم يستطع محمود أن يتبين هويّة الشخص في البداية لكنه تمكن في ما بعد أن يعرف أنّه شرطي . أنزل عون آخر خديجة من الجهة الأخرى . لم تفهم الفتاة شيء في البداية ، لكن سرعان ما استوعبت أن دوريّة مرة بالصدفة في تلك اللحظة التي هم فيها محمود بتقبيلها فانتابتها موجة بكاء هستيري خصوصا عندما رأت الشرطي يضرب خطيبها ، ترجتهم أن يتركوه ، لكن أحدهم شتمها و صفعها و طلب منها أن تغلق فمها .

و بعد ان أنهوا حفلت الاستقبال الأولى من ضرب و شتم  وضعوا لهما الأصفاد و ركب كل منهم في سيّارة و اتجهوا الى قسم الشرطة ، كان محمود  قد ركب مع أحد الأعوان في سيّارته ، و من حسن حضّه أنه تمكّن من إقناعه بأن يتركهما مقابل مبلغ لا باس به من المال يتقاسمه مع زملائه ، فانعطفا عند أول مفترق  فاتجاه البيت بينما واصلت السّيارة الثانية طريقها ،  تتطلب ذلك بعض الوقت لأن المنزل كان بعيدا ، في الضاحية الثانية من المدينة و لم يكن المال متوفرا لدى محمود نقدا فاضطرّ إلى سحب المال ببطاقته الذكيّة من موزع أحد البنوك و ضن أن القصّة ستنتهي عند هذا الحد .

 لكن المأسات الكبرى لم تكن هنا فحين عاد محمود لإسطحاب خديجة  ، كان على محيّاها ملامح غريبة ، صعدت الى السيّارة دون أن تنبس بكلمة ، لم يلاحظ محمود شيء في البداية ، هو أيضا لم يكن له خلق للكلام ، و أرجع خوفها إلى الصدمة فالأمر ليس بالهين عليها . لكنه حين صعد إلى السيّارة و أشعل الضوء ، لاحظ أن قميصها كان ممزقا ، نزل بنظره قليلا فرى بقع الدم على تنوّرتها ، لم ينبس بكلمة ، فقد تكلّمت عيناه هذه المرّة و نزلت من محجريه دمعة قاتمة اللون تنبؤ بالمحرقة . أمّا خديجة هائمة في ملكوت  آخر ، عيناها تنظران إلى الدّخل و ملامحها ملامح احتضار .
شغل المحرّك ، و دون أي كلمة توجه الى المستشفى ، روى القصّة لطبيب ألاستعجالي ، ترك له رقم هاتفه و عاد الى السيّارة مسرعا ، توجه الى البيت ، دخل في هدوء ، حمل ساطور أخيه الجزّار و خرج دون أن ينبس بكلمة و دون أن يجب عن تساؤلات امّه المعذبة . خرج و لم يعد ، حاولوا الاتصال به عدّة مرّات ، كان هاتفه مغلقا ، خرج شقيقه للبحث عنه ، جاب كل شوارع المدينة و لكن دون جدوى و حين يئس من البحث توجه إلى مركز الشرطة لتقديم بلاغ و هناك اكتشف كل القصّة .
ليقرأ الجميع من الغد في الصفحات الأولى من الجرائد   أن مخبولا إقتحم مركز الشرطة مع السّاعات الأولى للفجر يحمل ساطورا  ، و قد نشبت بينه وبين الأعوان معركة أودت بحياته و حيات أحدهم بين جرح ثلاثة آخرون .  و بعد حولي الأسبوع تم إستداع خديجة لتمثل  أمام قاضي التحقيق ،  لكن ليس كضحية بل جان تحت تهمة التجاهر بما ينافي الحياء وقد تم إخلاء سبيلها بعد عرضها على الاختصاصي النفسي ليثبت  عدم سلامة مداركها العقليّة ، حوسب الجاني و أنصفت الضّحية و اقفل في الغبّان ملفّ القضيّة .


 صفوان الطرابلسي



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire