
لم يضق جفناها طعم
النوم منذ الحادثة ، كلّما أغمضت عينيها تراءت لها تلك الوجوه المتوحّشة ككلاب
جائعة ، كذئاب يسيل لعابها لرائحة الدم . رائحتهم لازالت ملتصقة بجسدها ، لعابهم
المقزز لازالت لزوجته فوق شفتيها و نهديها ، كلماتهم الدّاعرة تدوّي
كل اليل داخل أذنيها كآذان شيطان . لمساتهم المتوحشة و تضاريس اياديهم
تركت آثارها محفورة فوق بطنها و فخذيها و سلخت الدموع خدّيها و طال بها البكاء .
لن تستطيع مهما حاولت أن تنسى ذلك الألم المريع عندما اخترقت نيراهم أحشاءها
الطّاهرة . لن تستطيع أن تنسى رائحة الدم و لونه حين إخطلط ببقايا الخطيئة في
رحمها و سال على فخذيها يرسم طريق الجحيم و حتّى حين تحاول النسيان
تتكفّل نظرات النّاس بتذكيرها أن ما انكسر لا يتم تصليحه على هذه الأرض .
دائما ما كانت تسأل
عن ذنبها ؟؟ ماهو يا ترى ؟؟ و لم تستطع إلى اليوم أن تجد له جوابا ، فقط ذنبها
أنّها امرأة ضعيفة ولدت في مجتمع ظالم و مبتذل جعل شرفه بين
فخذيه ، فقط لأنها ترعرعت في مجتمع يسمّي الكبت فضيلة و يقدّس العفّة و يرمي
بالعدالة للجحيم ، كل ذنبها أنها وقفت ذلك اليوم في طريق إنسان فاض كأس شهوته و
استعار إغتلاما و احترقت قنواته التناسليّة من فرط الصقيع و لمدّة كاد ينسى أنه
رجل من فرط الحرمان فأراد أن يبرهن لنفسه أنه مازال كما كان .
كانت تنظر إلى
وجهها في المرآة ، تتفحص ملامحها و تحاول أن تقرأ الألم المتخلّد في العينين
التّائهتين . بدأت القصّة حين أمرها رئسيها في ورشة الخياطة أن تواصل
العمل هي و بعض زميلاتها بعد الدّوام الأصليّ ، الطلبيّة لم تجهز بعد و التسليم
يجب أن يتم في الغد . لم تمانع ، فهذا يعني ساعات إضافيّة و هي في أمس حاجة إلى كل
قرش يمكنها جنيه ، لقد صارت المعيل الأوّل للعائلة منذ أن أصيب والدها بالسرطان و
لم يعد قادرا على العمل ، و ما تجنيه أمّها من العمل في البيوت لا يكفيهم لسد لقمة
العيش و تغطية مصاريف شقيقها الذي يدرس في العاصمة و دواء والدها .
و حتى لا تثير المشاكل قررت الإتصال بخطيبها حتى تعلمه أنها
ستتأخر في العمل ، و لأنّه غيور و شكّاك إلى أبعد الحدود طلب منها أن تتصل به حين
تكمل الدوام حتى يمرّ بسيّارة العمل و يوصلها فالوقت سيكون متأخرا و لن
يطمئن قلبه حتى يراها تدخل باب البيت .
و كما كان الإتفاق وجدته أمام بوابة المصنع ينتظرها ، كعادته
، يلبس قميص الدنقري الأزرق و يدخن سيجارته في هدوء ، قابلته بابتسامة منهكة ، كان
العمل شاقا و طويلا و الحرارة خانقة ولكنها حين جلست بجانبه نسيت تعبها
، كانت مشتاقة إليه ، إلى رائحته و كلماته ، لم تقابله منذ أسبوع و رسائل الهاتف
المتبادلة في ساعات الليل لم تكن تطفئ شوقها . هو أيضا كان مشتاقا إليها لذلك
حينما إتصلت به إغتنم الفرصة و أتى مسرعا . تجاذبا طول الطريق أحديث مختلفة و لكن
قبل أن يصلا إلى منعطف المنزل كان الجو قد مال إلى الرمنسيّة ، كما كان الشّارع
مقفرا و أضواء البلديّة مطفأة . بدأ الدفء يجتاح أوصالهما و الشهوة
تجتاحهما و لكنّهما رغم كل هذا الشوق المتخلّد في الصدور لم
يكونا يطمعان في أكثر من بعض القبلات للذكرى ، حينها أطفأ محمود المحرك
و أخذ يداعب شعرها وخدّها و ما كاد يلثم الشفتين ، حتّى سمعى صوت سيّارة توقفت إلى
جانبها بشكل عنيف ، نزل منها ثلاثة رجال و فتح أحدهم الباب في عنف و جذب محمود و
لكمه فسقط أرضا ، ثم أخذ يركله ، لم يستطع محمود أن يتبين هويّة الشخص في البداية
لكنه تمكن في ما بعد أن يعرف أنّه شرطي . أنزل عون آخر خديجة من الجهة الأخرى . لم
تفهم الفتاة شيء في البداية ، لكن سرعان ما استوعبت أن دوريّة مرة بالصدفة في تلك
اللحظة التي هم فيها محمود بتقبيلها فانتابتها موجة بكاء هستيري خصوصا عندما رأت
الشرطي يضرب خطيبها ، ترجتهم أن يتركوه ، لكن أحدهم شتمها و صفعها و طلب منها أن
تغلق فمها .
و بعد ان أنهوا
حفلت الاستقبال الأولى من ضرب و شتم وضعوا لهما الأصفاد و ركب كل منهم
في سيّارة و اتجهوا الى قسم الشرطة ، كان محمود قد ركب مع أحد الأعوان
في سيّارته ، و من حسن حضّه أنه تمكّن من إقناعه بأن يتركهما مقابل مبلغ لا باس به
من المال يتقاسمه مع زملائه ، فانعطفا عند أول مفترق فاتجاه البيت
بينما واصلت السّيارة الثانية طريقها ، تتطلب ذلك بعض الوقت لأن المنزل
كان بعيدا ، في الضاحية الثانية من المدينة و لم يكن المال متوفرا لدى محمود نقدا
فاضطرّ إلى سحب المال ببطاقته الذكيّة من موزع أحد البنوك و ضن أن القصّة ستنتهي
عند هذا الحد .
لكن المأسات الكبرى لم تكن هنا فحين عاد محمود لإسطحاب
خديجة ، كان على محيّاها ملامح غريبة ، صعدت الى السيّارة دون أن تنبس بكلمة
، لم يلاحظ محمود شيء في البداية ، هو أيضا لم يكن له خلق للكلام ، و أرجع خوفها
إلى الصدمة فالأمر ليس بالهين عليها . لكنه حين صعد إلى السيّارة و أشعل الضوء ،
لاحظ أن قميصها كان ممزقا ، نزل بنظره قليلا فرى بقع الدم على تنوّرتها ، لم ينبس
بكلمة ، فقد تكلّمت عيناه هذه المرّة و نزلت من محجريه دمعة قاتمة اللون تنبؤ
بالمحرقة . أمّا خديجة هائمة في ملكوت آخر ، عيناها تنظران إلى الدّخل و
ملامحها ملامح احتضار .
شغل المحرّك ، و
دون أي كلمة توجه الى المستشفى ، روى القصّة لطبيب ألاستعجالي ، ترك له رقم هاتفه
و عاد الى السيّارة مسرعا ، توجه الى البيت ، دخل في هدوء ، حمل ساطور أخيه
الجزّار و خرج دون أن ينبس بكلمة و دون أن يجب عن تساؤلات امّه المعذبة . خرج و لم
يعد ، حاولوا الاتصال به عدّة مرّات ، كان هاتفه مغلقا ، خرج شقيقه للبحث عنه ،
جاب كل شوارع المدينة و لكن دون جدوى و حين يئس من البحث توجه إلى مركز الشرطة
لتقديم بلاغ و هناك اكتشف كل القصّة .
ليقرأ الجميع من
الغد في الصفحات الأولى من الجرائد أن مخبولا إقتحم مركز الشرطة مع
السّاعات الأولى للفجر يحمل ساطورا ، و قد نشبت بينه وبين الأعوان
معركة أودت بحياته و حيات أحدهم بين جرح ثلاثة آخرون . و بعد حولي
الأسبوع تم إستداع خديجة لتمثل أمام قاضي التحقيق ، لكن ليس
كضحية بل جان تحت تهمة التجاهر بما ينافي الحياء وقد تم إخلاء سبيلها بعد عرضها
على الاختصاصي النفسي ليثبت عدم سلامة مداركها العقليّة ، حوسب الجاني و
أنصفت الضّحية و اقفل في الغبّان ملفّ القضيّة .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire