vendredi 25 janvier 2013

لا لقتل صابر المرايحي


في عصور الانحطاط ، حين يصير الابتذال ثقافة و الرّداءة سمة للعصر ، ينتهي الكلام عن المنطق و يعدم العقل في مهرجانات الهرج و المرج . " نحن في عالم يجبرنا على ممارسة الحب في الخفاء في حين يمارس العنف في وضح النّهار" هكذا وصّف جون لينون عصر الانحطاط . لكن ما الذي كان سيقوله ، لو لم يقتله أحد المهووسين بفنّه ، وتمكّن من أن يعيش ليرى ما نعانيه اليوم . ربّما كان سيفضّل المقاومة في صمت ، حينما يرى سيّارة الشرطة تنطلق بسرعة جنونيّة في قرية لا توجد على الخريطة و تدهس في طريقها شابا في عمر الورد يعيل عائلة بأكملها من تجارة السجائر المهرّبة . ترديه قتيلا في لمح البصر  أما اخوانه و ابناء عمومته . يشعر سائقها بارتطام الجثة و تحطم العظام و تشق الرّأس ، لكنّه بكل برودة دم يواصل الطريق غير عابئ بما اقترفت يداه . الشاب اسمه وحيد الكوني القاطن في مدينة عقارب من ولاية صفاقس . الإشكال الحقيقي في القصّة  ، لا يتمثل في الحادث ، في النهاية لعب القدر دوره ، و ليس هنالك من يفر من ساعة موته . لكن حين تتعمّد دوريّة الحرس الوطني الهروب بعد قتل الشاب ، و يتم استدعاء التعزيزات و التنكيل بالأهالي اثر احتجاجهم على وفات وحيد ، يصبح للحادث بعد آخر . القضيّة لم تعد موت شاب في حادث مرور عادي ، فهذا الحادث و ما تلاه خصوصا من أحداث، استنزفت ما تبقى في رصيدنا الخاوي من انسانيّة . "نحن لا ننشد عالم لا يقتل فيه أحد ، بل عالما لا يمكن فيه تبرير القتل " هكذا قال ألبير كامو عن عصر الانحطاط . هو أيضا كان ضحيّة حادث مرور أليم ، حرمنا أحد أكبر مفكري القرن العشرين . لكن ماذا لو عاند قدره و تمكّن من الحياة ، كان سيعرف أن القتل ليس أكبر الخطايا . ماذا تراه يقول حين يشاهد صابر المرايحي قابعا في السجن ، شاب في الخامسة و العشرون من عمره ، عامل بشركة السكك الحديدية ، ابن الشعب ، زوّالي عيّاش كما يقولون ، من الكبّارية أحد الأحياء الشعبيّة في ضواحي تونس العاصمة . صابر اليوم حكم عليه بالسجن لمدّة عشرين سنة و هو لا يزال قيد الايقاف بعد الاستئناف ، ينتظر مصيرا مجهولا ، او ربّما لم يعد ينتظر شيئا . يبتسم كلّما مرت أمام عينيه أوراق ملفه ، كثر الهم يضحّك ، تهمته المشاركة في الثورة و من يتهمه بممارسة العنف شرطي و الدّليل شريط فيديو منشور على الفايسبوك ، شوهد فيه صابر مع مجموعة من اصدقائه ايّام الثورة يسبون البوليس . قمّة السخرية ، القدر يسخر منّا كل يوم ألف مرّة و البوليس يزني فينا كل ليلة و حماة الشعب يقفون على الباب كالقوّادين و يكتفون بالتنصّة في خجل او ربما في لذّة.
في النهاية اريد أن أتوجّه بكلمة لصابر " الحبس كذاب و الحي يروّح... " فقضيّته لم تعد اليوم همّا شخصيا ، انها قضيّة شعب تسرق ثورته أو ربّما ثورة بدأت تأكل أولادها . أمّا حكّامنا الأفاضل فيكفيهم مني نصيحة أبو القاسم الشابي للمستعمر " حذاري فتحت الرّماد اللهيب / و من يزرع الشوك يجني الجراح " و ما يزرعونه اليوم في مجتمعنا من قهر و ظلم و تجهيل و تفتيت ، يتراكم يوما بعد يوم و عاقبته لن تتوقف عند الجراح لأن " ارادة الشعوب تكره المزاح ".


صفوان الطرابلسي
ضد السلطة في 26/01/2013

mercredi 23 janvier 2013

و اذا الموؤدة سئلت

كانت تنظر إلى وجهها في المرآة ، تحاول اكتشاف نفسها من جديد ، لم تعد منذ ذلك اليوم تلك الفتاة ذات الملامح البريئة و النظرة الصّادقة ، فقدت احساسها بالإنسانيّة و جدوى الوجود ، كانت تتمنّى لو أنها لم تخلق قط ، لو أنها لم تكن شابّة بملامح طفوليّة حائرة و شفتين زهريّتين و عينين كحب اللوز فاتنتين .
لم يضق جفناها طعم النوم منذ الحادثة ، كلّما أغمضت عينيها تراءت لها تلك الوجوه المتوحّشة ككلاب جائعة ، كذئاب يسيل لعابها لرائحة الدم . رائحتهم لازالت ملتصقة بجسدها ، لعابهم المقزز لازالت لزوجته فوق شفتيها و نهديها ، كلماتهم الدّاعرة  تدوّي كل  اليل داخل أذنيها كآذان شيطان . لمساتهم المتوحشة و تضاريس اياديهم تركت آثارها محفورة فوق بطنها و فخذيها و سلخت الدموع خدّيها و طال بها البكاء . لن تستطيع مهما حاولت أن تنسى ذلك الألم المريع عندما اخترقت نيراهم أحشاءها الطّاهرة . لن تستطيع أن تنسى رائحة الدم و لونه حين إخطلط ببقايا الخطيئة في رحمها و سال على فخذيها يرسم طريق الجحيم  و حتّى حين تحاول النسيان تتكفّل نظرات النّاس بتذكيرها أن ما انكسر لا يتم تصليحه على هذه الأرض .
دائما ما كانت تسأل عن ذنبها ؟؟ ماهو يا ترى ؟؟ و لم تستطع إلى اليوم أن تجد له جوابا ، فقط ذنبها أنّها امرأة ضعيفة  ولدت في مجتمع ظالم و مبتذل  جعل شرفه بين فخذيه ، فقط لأنها ترعرعت في مجتمع يسمّي الكبت فضيلة و يقدّس العفّة و يرمي بالعدالة للجحيم ، كل ذنبها أنها وقفت ذلك اليوم في طريق إنسان فاض كأس شهوته و استعار إغتلاما و احترقت قنواته التناسليّة من فرط الصقيع و لمدّة كاد ينسى أنه رجل من فرط الحرمان فأراد أن يبرهن لنفسه أنه مازال كما كان .
كانت تنظر إلى وجهها في المرآة ، تتفحص ملامحها و تحاول أن تقرأ الألم المتخلّد في العينين التّائهتين . بدأت القصّة حين أمرها رئسيها في ورشة  الخياطة أن تواصل العمل هي و بعض زميلاتها بعد الدّوام الأصليّ ، الطلبيّة لم تجهز بعد و التسليم يجب أن يتم في الغد . لم تمانع ، فهذا يعني ساعات إضافيّة و هي في أمس حاجة إلى كل قرش يمكنها جنيه ، لقد صارت المعيل الأوّل للعائلة منذ أن أصيب والدها بالسرطان و لم يعد قادرا على العمل ، و ما تجنيه أمّها من العمل في البيوت لا يكفيهم لسد لقمة العيش و تغطية مصاريف شقيقها الذي يدرس في العاصمة و دواء والدها .
 و حتى لا تثير المشاكل قررت الإتصال بخطيبها حتى تعلمه أنها ستتأخر في العمل ، و لأنّه غيور و شكّاك إلى أبعد الحدود طلب منها أن تتصل به حين تكمل الدوام حتى يمرّ  بسيّارة العمل و يوصلها فالوقت سيكون متأخرا و لن يطمئن قلبه حتى يراها تدخل باب البيت . 
 و كما كان الإتفاق وجدته أمام بوابة المصنع ينتظرها ، كعادته ، يلبس قميص الدنقري الأزرق و يدخن سيجارته في هدوء ، قابلته بابتسامة منهكة ، كان العمل شاقا و طويلا و الحرارة خانقة  ولكنها حين جلست بجانبه نسيت تعبها ، كانت مشتاقة إليه ، إلى رائحته و كلماته ، لم تقابله منذ أسبوع و رسائل الهاتف المتبادلة في ساعات الليل لم تكن تطفئ شوقها . هو أيضا كان مشتاقا إليها لذلك حينما إتصلت به إغتنم الفرصة و أتى مسرعا . تجاذبا طول الطريق أحديث مختلفة و لكن قبل أن يصلا إلى منعطف المنزل كان الجو قد مال إلى الرمنسيّة ، كما كان الشّارع مقفرا و أضواء البلديّة مطفأة  . بدأ الدفء يجتاح أوصالهما و الشهوة تجتاحهما و لكنّهما رغم كل هذا الشوق المتخلّد في الصدور لم يكونا  يطمعان في أكثر من بعض القبلات للذكرى ، حينها أطفأ محمود المحرك و أخذ يداعب شعرها وخدّها و ما كاد يلثم الشفتين ، حتّى سمعى صوت سيّارة توقفت إلى جانبها بشكل عنيف ، نزل منها ثلاثة رجال و فتح أحدهم الباب في عنف و جذب محمود و لكمه فسقط أرضا ، ثم أخذ يركله ، لم يستطع محمود أن يتبين هويّة الشخص في البداية لكنه تمكن في ما بعد أن يعرف أنّه شرطي . أنزل عون آخر خديجة من الجهة الأخرى . لم تفهم الفتاة شيء في البداية ، لكن سرعان ما استوعبت أن دوريّة مرة بالصدفة في تلك اللحظة التي هم فيها محمود بتقبيلها فانتابتها موجة بكاء هستيري خصوصا عندما رأت الشرطي يضرب خطيبها ، ترجتهم أن يتركوه ، لكن أحدهم شتمها و صفعها و طلب منها أن تغلق فمها .

و بعد ان أنهوا حفلت الاستقبال الأولى من ضرب و شتم  وضعوا لهما الأصفاد و ركب كل منهم في سيّارة و اتجهوا الى قسم الشرطة ، كان محمود  قد ركب مع أحد الأعوان في سيّارته ، و من حسن حضّه أنه تمكّن من إقناعه بأن يتركهما مقابل مبلغ لا باس به من المال يتقاسمه مع زملائه ، فانعطفا عند أول مفترق  فاتجاه البيت بينما واصلت السّيارة الثانية طريقها ،  تتطلب ذلك بعض الوقت لأن المنزل كان بعيدا ، في الضاحية الثانية من المدينة و لم يكن المال متوفرا لدى محمود نقدا فاضطرّ إلى سحب المال ببطاقته الذكيّة من موزع أحد البنوك و ضن أن القصّة ستنتهي عند هذا الحد .

 لكن المأسات الكبرى لم تكن هنا فحين عاد محمود لإسطحاب خديجة  ، كان على محيّاها ملامح غريبة ، صعدت الى السيّارة دون أن تنبس بكلمة ، لم يلاحظ محمود شيء في البداية ، هو أيضا لم يكن له خلق للكلام ، و أرجع خوفها إلى الصدمة فالأمر ليس بالهين عليها . لكنه حين صعد إلى السيّارة و أشعل الضوء ، لاحظ أن قميصها كان ممزقا ، نزل بنظره قليلا فرى بقع الدم على تنوّرتها ، لم ينبس بكلمة ، فقد تكلّمت عيناه هذه المرّة و نزلت من محجريه دمعة قاتمة اللون تنبؤ بالمحرقة . أمّا خديجة هائمة في ملكوت  آخر ، عيناها تنظران إلى الدّخل و ملامحها ملامح احتضار .
شغل المحرّك ، و دون أي كلمة توجه الى المستشفى ، روى القصّة لطبيب ألاستعجالي ، ترك له رقم هاتفه و عاد الى السيّارة مسرعا ، توجه الى البيت ، دخل في هدوء ، حمل ساطور أخيه الجزّار و خرج دون أن ينبس بكلمة و دون أن يجب عن تساؤلات امّه المعذبة . خرج و لم يعد ، حاولوا الاتصال به عدّة مرّات ، كان هاتفه مغلقا ، خرج شقيقه للبحث عنه ، جاب كل شوارع المدينة و لكن دون جدوى و حين يئس من البحث توجه إلى مركز الشرطة لتقديم بلاغ و هناك اكتشف كل القصّة .
ليقرأ الجميع من الغد في الصفحات الأولى من الجرائد   أن مخبولا إقتحم مركز الشرطة مع السّاعات الأولى للفجر يحمل ساطورا  ، و قد نشبت بينه وبين الأعوان معركة أودت بحياته و حيات أحدهم بين جرح ثلاثة آخرون .  و بعد حولي الأسبوع تم إستداع خديجة لتمثل  أمام قاضي التحقيق ،  لكن ليس كضحية بل جان تحت تهمة التجاهر بما ينافي الحياء وقد تم إخلاء سبيلها بعد عرضها على الاختصاصي النفسي ليثبت  عدم سلامة مداركها العقليّة ، حوسب الجاني و أنصفت الضّحية و اقفل في الغبّان ملفّ القضيّة .


 صفوان الطرابلسي



samedi 19 janvier 2013

ثورة في مهب الغباء

" لا شيء يعجبني ..."
يصرخ درويش داخلنا باحثا عن مخرج ، صدورنا ضاقت بآلامنا و أحلامنا لم يعد لها مكان في الأفق ، أجهضها الجهل و الغباء . سنتان مرتا سريعا على اندلاع ثورة أراد شعبها اسقاط النظام فسقط في فخ الهويّة الضائعة بين ثنايا الوهم . الرّكب يسير الى المجهول ، الانسان داخلنا يصارع من أجل البقاء ، يحاول انقاذ ما تبقّى من البشريّ فينا و انتشالنا من حضيض الرّداءة و الابتذال . لا شيء تغيّر على هذه الأرض غير تاريخ الاحتفال.
على هذه الأرض فقد الانسان احساسه بالوجود ، أفلت رسن الزّمان من يديه و بدأ بالتقهقر الى الوراء دون وعي . فرّط في ثمالة الشرف المتبقّية في رصيده ، نزع عنه الكبرياء و احتفل للسنة الثانية بثورة الكرامة. شرب كأس الذل و المهانة ، اصطنع أمام الحضور الابتسامة و حين تفرّق المحتفلون و عاد وفد المهنّؤون من حيث جاء ، سحب ما تبقّى من ذكرياته و تفرّغ للبكاء. سقط في دوّامة الفراغ ، مثل سيزيف أدمن العدميّة ، حمل الصخرة فوق ظهره دهرا و كان يضنّها قدرا ، لعنة تتبعه الى ما لا نهاية. أكثر الأشياء غرابة باتت عاجزة على استفزاز مشاعره المحبطة ، جثة حيّة تسير في شوارع مبهمة التفاصيل ، لا طعم و لا لون و لا حتّى عناوين تكون الدّليل  ، حطام يجوب في الحطام . تضيع البوصلة و يفلت زمام الأمور، مظفّر على الرصيف المقابل يرقص رقصة زوربا على أنقاض الخراب الجميل فلا شيء يعيد النظام لهذا العالم المجنون " سيكون خرابا ... سيكون خرابا ... هذه الأمّة لابد لها من درس في التخريب."
متى تؤمن هذه الأمّة أن الحركة قانون الحياة ، متى تحطّم أصنامها و تؤمن بشبابها و تكفّ عن اجترار الماضي فمستقبلنا الى الأمام. كل زعمائنا شيوخ و كل صراعاتنا هامشيّة ، عقد مترسّبة من بقايا حروب غابرة تجاوزتها البشريّة بقرون ، نجري وراء أمجاد لن تعود ، نغوص في قراءة تاريخ الأمم السابقة و ننسى أن تاريخنا يكتب الآن وهنا و لن يفيدنا نسخ الأحداث فالتاريخ لا يعيد نفسه سوى في أوهامنا. من يبن الجمل اليائسة يصعد الرفيق ماركس للواجهة " التاريخ يعيد نفسه في المرّة الأولى كمأساة و في المرّة الثانية كمهزلة " و نحن الآن في أقصى تجلّيات المهزلة. التاريخ يعيد نفسه في أوطاننا كل دقيقة ، نعيش حياة ليست لنا ، نخوض حرب أجدادنا ، و نلوي رقابنا كالنعاج و نسلّم بحتميّة القدر، تتعاقب على حكمنا الأنظمة الفاشيّة منذ الأزل و يتاجر بشرفنا سماسرة السياسة و المتسوّلون على عتبات الدول الكبرى. لازلنا الى اليوم نباع في سوق النخاسة الدولي بأبخس الأثمان ، تتزايد على لحمنا الأفخاذ الملكيّة و بارونات الامبرياليّة و حين تتم الصفقة نصفّق بحرارة لبطل المسرحيّة و نكتفي نحن بدور الضّحيّة.
يصرخ درويش في وجوهنا حانقا " سنصير شعباً حين لا نتلو صلاة الشكر للوطن المقدَّس، كلما وجد الفقيرُ عشاءَهُ ..."  سنصير شعبا حين نضع يدنا على الجرح النّازف ،القرن الواحد و العشرون و مازال الفلّاحون في سيدي بوزيد و جندوبة و سليانة يعانون الأمرّين من سوء استغلال و توزيع الاراضي ، حلمهم لا يتعدّى قرار الاستصلاح الزراعي. ثلاثة آلاف سنة من الحضارة و مازال اهل الجنوب يمتهنون التهريب ، يخاطرون بحياتهم في سبيل لقمة العيش و ينتفضون كل سنة ضد اغلاق المعابر. مازال العدل في وطني زائرا عابرا. خمسون سنة من الانفتاح الاقتصادي و اهل الحوض المنجمي يلعنون الفسفاط و لا يطلبون أكثر من العدل في توزيع الثروات . ستوّن ستة من استقلال الجمهرية وتأسيس الدولة و سنتان مرتا على الثورة و لازلنا نبحث عن الكرامة و الكبرياء ، نطالب بالقصاص من قتلت الشهداء و عند المواجهة نكتفي بالدعاء ، هذه الأمة لابد لها من درس في التاريخ ، هذا الشعب لابد أن يكف عن قراءة العناوين المكتوبة بماء الذهب لأن الحقيقة مدوّنة بالدماء على الهوامش ، يصرخ مظفّر من جديد " وطني علّمني ... علّمني أن حروف التاريخ مزوّرة حين تكون بدون دماء ."
سنتان مرّتا على ثورة شعب أراد تصحيح المسار و كتابة تاريخه بيده ، ترى هل يملك ما يكفي من دماء ؟
هل يملك ما يكفي من شجاعة و كبرياء ؟ لأن الأيادي المرتعشة لا تكتب التّاريخ و من يحتفل قبل الأوان يخسر المعركة ...

صفوان الطرابلسي
ضد السلطة في 21/01/2013 

vendredi 18 janvier 2013

الدوس على شظايا الحلم

تلك المعاناة الأليمة التي تصاحبك كل صباح حين تستيقظ باكرا و ينهش ما تبقى من جلد على عظمك البرد كي تلتحق بمقاعد الدراسة. تجمع الملاليم الفارة من أناملك داخل جيبك تعدها و تعيد عدها عل الرقم يتغير و تتمكن من خلاص تذكرة الميترو و الحافلة و تجنب صراخ المراقب و المهانة التي تكسر آخر أونصة من كرامتك و هو ينهرك و يلقي عليك درسا في الأخلاق على الملأ أبشع حتى من الشعيرات المتدلية على ذقنه و التي تبعث فيك رغبة في التقيء كل صباح.
تجلس على منضدة المشرب بالجامعة تطلب قهوة مرة بمرارة أيامك، تشربها و تبحث عن نفس سيجارة حتى تقبلها بنهم كعاشق متألم.
تحملق في شعرك المرتب ملابسك لحيتك المحلوقة بعناية رائحة العطر (الصبة) التي تحاول بها اخفاء رائحة العرق جراء الجري وراء الحافلة الصفراء كل هذا كي تعطي ذاك الانطباع الزائف حول الطالب طالب العلم المثالي بينما في الواقع لست سوى نسخة سيئة من نجوم السينما التجارية و مقدمي الأخبار في ستراتهم الباهضة.
تسأل نفسك كل صباح ان كان لما تقوم به يوميا معنا ان كنت فعلا في حاجة الى حشو عقلك بأفكار مسقطة و برامج تعليمية عليلة تزيد في تخديرك كي تبقى عاجزا عن التفكير خارج السرب كي تبقى خانعا راضخا للنظام كي لا تكون على الهامش لكنك تدفع كل مرة تلك الأفكار و تواصل لهيثك نحو الحلم التونسي ...عامل ببنك أو أستاذ جامعي أو طبيب أو مهندس و لما لا تكون طيارا.
و مع تقدم الأيام يضيق بك الحلم شهادتك الجامعية دعوات أمك كل صباح تجاعيد الهم هجمت على وجنتيك مقهى الحي الكريه كل ما يحيط بك يصبح رثا غرفتك أصدقاؤك الوجوه المارة في الشارع كلها كئيبة عابسة ليست سوى جثث بثت فيها سويعات من الحياة الشوارع الضيقة البطالة الفقر المذلة التي تصاحبك يوميا بينما تمد يدك لوالدتك مطأطا الرأس.فتحاول تزيين كل تلك المهن الرذيلة الذليلة و تجتاحك فكرة الالتحاق بجهاز الأمن أو الجيش الوطني جدا تحملق بأعين حالمة في صورة رشيد عمار حامي الوطن في صورة علي طرشقانة لم لا تكون مثلهما يوما ما .تنسى أو تتناسى أن رجل الأمن مهما كان شريفا يبقى نذلا و أن العسكر مهما كان وطنيا يبقى قاتلا و أن الموظف السامي مهما كان نظيفا يبقى لا مبدئيا و أن عصى البوليس وان كانت وردية تبقى قاصمة لكلمة الحق و ان الكمبة و ان كانت بيضاء فهي ملطخة بدم الشعب قبل أن تلطخ بدم الغزاة تنسى كل ذلك تنسى مطاردة رجال الأمن لك في مسيرة عابرة حين طالبت بالشغل يوما ما و أيام الرافل و الرعب الذي يصحب تلك الكلمة تنسى أنك لعنت الجيش حين مات أبوك في ثورة قيل عنها ثورة الخبز و حين مات أخوك على يدي قناص قبل ثلاث سنوات تنسى كل ذلك و تقدم مطلبا في التخلي عن رجولتك و التخلي عن انسانيتك و تلتحق بجهاز اللاأمن جهاز الرعب و الارهاب.


خلدون باجي عكاز

Haut du formulaire

jeudi 17 janvier 2013

الوشم

الآن
في الساعة الثالثة من القرن العشرين
حيث لا شيء
يفصل جثثَ الموتى عن أحذيةِ الماره
سوى الاسفلت
سأتكئ في عرضِ الشارع كشيوخ البدو
ولن أنهض
حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين
في العالم
وتوضع أمامي
لألوكها كالجمل على قارعة الطريق..
حتى تفرَّ كلُّ هراواتِ الشرطة والمتظاهرين
من قبضات أصحابها
وتعود أغصاناً مزهرة (مرةً أخرى)
في غاباتها
أضحك في الظلام
أبكي في الظلام
أكتبُ في الظلام
حتى لم أعدْ أميّز قلمي من أصابعي
كلما قُرعَ بابٌ أو تحرَّكتْ ستاره
سترتُ أوراقي بيدي
كبغيٍّ ساعةَ المداهمه
من أورثني هذا الهلع
هذا الدم المذعور كالفهد الجبليّ
ما ان أرى ورقةً رسميةً على عتبه
أو قبعةً من فرجة باب
حتى تصطكّ عظامي ودموعي ببعضها
ويفرّ دمي مذعوراً في كل اتجاه
كأن مفرزةً أبديةً من شرطة السلالات
تطارده من شريان إلى شريان
آه يا حبيبتي
عبثاً أستردُّ شجاعتي وبأسي
المأساة ليست هنا
في السوط أو المكتب أو صفارات الإنذار
إنها هناك
في المهد.. في الرَّحم
فأنا قطعاً
ما كنت مربوطاً إلى رحمي بحبل سرّه
بل بحبل مشنقة

محمد الماغوط 

Un filme à regarder / La bande à baader

La Bande à Baader, du nom de son chef Andreas Baader, est le nom donnée à la Fraction armée rouge (en allemand Rote Armee Fraktion, RAF). C’était une organisation d'extrême gauche qui opéra en Allemagne de l'Ouest pendant les années 1970 et 1980. Parmi ses membres, Ulrike Meinhof était considérée comme le cerveau de la bande.
L'organisation se présentait comme un mouvement de lutte armée, tandis qu'elle était considérée par le gouvernement ouest-allemand comme terroriste. Appuyée sur une idéologie d'inspiration maoïste de guérilla urbaine, refusant la théorisation pour privilégier la pratique, elle a procédé à de nombreux attentats, mais surtout à des enlèvements et des assassinats spectaculaires qui ont défrayé la chronique. Leur objectif: dénoncer l'impérialisme américain soutenu par les membres de l'establishment allemand, dont certains ont un passé de nazi pour créer une société plus humaine.
Ils se déclarent solidaires de tous les damnés de la terre, des Vietnamiens ou des guérilleros sud-américains, ils jouent aux révolutionnaires, se lancent «dans la lutte armée dans les sanctuaires mêmes de l'impérialisme», et attendent le soutien du prolétariat international.
La bande à Baader est issue des mouvements étudiants nés dans les années 60 en Europe et aux Etats-Unis. La création de l'organisation et sa violence sont liées au contexte en Allemagne à cette époque. En effet, une partie des jeunes Allemands demande à la génération précédente des comptes sur son rôle dans la période nazie. Cela se matérialise par des oppositions politiques, des manifestations qui dégénèrent. Il y a des blessés, un mort même, à Berlin, lors d'une manifestation contre le shah d'Iran. La guerre du Vietnam fournit un prétexte idéal pour dénoncer l'impérialisme américain. Le Che montre l'exemple...








lundi 14 janvier 2013

البرويطـــة

خالتي مباركة تكنس في سكّة المترو يديها مشقّين كي جبينها التاعب المكبوب عالسبركة عندو اكثر من عشرين سنة. الغبرة ڨَـلڨِـت آس.دي.آف راقد و متغطّي بجريدة الأنوار قايم يتكسّل تعرضو تصويرة الجبالي بالألوان نفضها تقول عليه شاف عزراويل! ترمات الجريدة تحت ساقين طفل في عمر 16 ملفوف بزنّار ينقش على الحيط بالاحمر: انت تدهن و أنا نكتب ACAB، حملة على الحيوط الناطقة عملها صالح عمدة الحومة سابقا. هاو من سطح داره ينسنس كي عادته أما عندو الجديد، رمى الكشكول البنفسجي و ركّب لحية تڨحر للحريّة. صالح العمدة باقي يصڨّص من البركون.. يتبّع في "علياء" حتّى وصلت الباب الدار، علياء حاطّة التالون تحت ضبّوطها، بدنها مدڨدڨ.. "الخدمة" متعبة! تجري بش تخلط تعطي فلوس الإيتود لاختها الصغيرة، كي العادة استقبلها "منير" خوها بالسبّ و التربريب و طربق الباب و خرج، نسى قدّاش هزّتلو قفاف للحبس و عايرها بفلوسها الحرام، تي ماو ولّى يخدم في لجان حماية الثورة يصوّر في 70 دينار في الجمعة.. مشى يعمل في كسكروت عيّاري (هريسة و عظم و زيت حاكم) تحت الڨنطرة عند حمد، يلقاه راكش مع رواية خايف ينسى الفرنسية بعد اللّي عندو 5 سنين بطّال. قدّام "برويطة الحريّة" كيما سمّاها حمد يتلاقى الجميع للاستمتاع بالمروّب و تقطيع و ترييش السياسيين و الحديث على الحليب المقطوع و اللّحمة الشارفة متاع علّوش رومانياو الرشّ و الطرش متاع الحكومة، حتّى من خالتي مباركة تجي ترتاح حذى حمد قبل ما تمشي للخدمة "بعد الظهر" في الحمّام.” برويطة الحريّة ‟ معلّق فيها حمد راديون، نشرة السابعة صباحا: ” إضراب عام في الرديف احتجاجا على عدم ادراج شهداء وجرحى أحداث الحوض المنجمي التي اندلعت في غضون عام 2008 من المرسوم 97 الأخير المتعلق بشهداء وجرحى الثورة ‟.
ـ منير: زعمة تجي من وراهم خديمة ؟
ـ حمد: لازمك تترانا مليح مش ساهلة المهمّة كيما كان الأمر في جربة…
ـ منير: الفايدة في العطّ (الفلوس) و تو تلقاني نطير طيران 
ـ خالتي مباركة: ياخي شنوّة الحكاية يا حمد وليدي، هاني سمعت بش يعطوهم تعويض
-منير: ماللّخر اليسار يحطّ في العصا في العجلة
ـ خالتي مباركة: ما حفظوكمش جملة أخرى! زيد ما طلب منكم حدّ تعسّوا عالثورة. خلّيو إمّاليها يحميوها و بلاش فلوس 
ـ حمد: في 5 جانفي 2008 و بعد الإعلان عن نتائج إنتداب أعوان و كوادر شركة فسفاط ڨفصة، شعلت أم العرائس والمظيلة والرديف والمتلوي من جرّت الأكتاف (المحسوبيّة).. و تواصلت الاحتجاجات 6 شهور حتّى بدات كلاب بن علي تضرب بالكرتوش، و مات أوّل شهيد بكرتوشة في ظهره، الحفناوي المغزاوي ولد 25 سنة.. عشرات الجرحى، دِهموا عالديار، فزّعوا النساوين و الصغار، نكّلوا بالمعتقلين و حاكموا النقابيين.. ناري عالفسفاط ماجاب لأهلو كان الكونسار (مرض السرطان) و البطالة و الفقر و التهميش و زيد بعد سنوات من النضال الطويل والاقصاء، ينكروا فضل شباب ڨفصة بعد هذا الكل يتجرّأُو على رفض الاعتراف بالشهداء و الجرحى، أحفاد الأزهر الشرايطي وعبد العزيز العكرمي وساسي الأسود، اللّي رسموا بدمائهم طريق الخلاص من كلّ أشكال الظلم و الطغيان.في الراديون يصرخ المقاتل عدنان الحاجي: ” سننقل احتجاجات الحوض المنجمي إلى العاصمة. ‟ (...) و يتواصل النقاش، ناس تمشي و ناس تجي و لحية صالح العمدة ما بطلتش تنسنيس.من أمام ”برويطة الحريّة‟ في إحدى الأحياء الشعبيّة، يصرخ مظفر النواب: ” نحن نجير للدم كل البلاد.. وهذا قليل قليل‟.


رحمة البلدي 

samedi 12 janvier 2013

رحلة الموت و الحرّية


بينما يستعد سكّان العالم للإحتفال باستقبال سنة جديدة  يصوغون على شرفها أمنياتهم و يبحثون في أفقها عن سبب للتفاؤل ، كان الصيّادون القراطن في جزيرة قرقنة من الجنوب التونسي يكتبون وصاياهم على حائط الميناء و يجمعون ما تبقّى من شبك الصيد و معدّاتهم المهترئة ،.عازمون على المضيّ قدما في رحلتهم المأساوية، "رحلة الموت والحرية".
قبل أن تخترق خيوط الفجر الأولى صفحة الأفق ، بدأت الجماهير بالتوافد على ميناء الصيد الصّغير . رجال و نساء ، شيوخ و كهول و شباب ، حتى الأطفال و الرّضّع حجز لهم مكان في موكب الوداع العظيم . وقف الجميع على الرّصيف ، منهم من عزم على المشاركة و بدأ في تجهيز المراكب و منهم من لازال يتشبّث بخيط رقيق من الأمل و يحاول اقناع رفاقه بالعدول عن خوض المغامرة أما البقيّة فقد وقفوا ساهمين مكتفين بذرف دموع الحرقة و الدّعاء .
حين  ترى المشهد من الخارج ، من فوق سطوح المنازل المجاورة ، ستظن أنك تشاهد الميناء في ذروة موسم صيد القرنيط ، جلبة كبيرة ، اكتظاظ و صياح و تدافع ، موسم تزهو فيه النفوس و تكثر فيه المنافع و فيه  يحيي الصيّادون مهرجانهم العريق ، لوهلة قد تصدّق خيالاتك لكنك تتذكر فجأة ديسمبر2010 حيث تحدّى البحّارة التدجيج الأمني مانعين انتظام الحفل الإفتتاحي لمهرجان القرنيط وذلك لذات الأسباب القائمة إلى حد اليوم . تنزل الى الرصيف ، لا تسمع فيه كما تعوّدت صوت الغناء ، لا ترى الصيّادين يرقصون على أنغام "المزود" و لا تسمع نكاتهم البذيئة و قهقهاتهم الصاخبة ، لن تراهم اليوم يدللون على قفاف غلّتهم و لن ترى المشترين يتزايدون في صراع . سيصدمك تذمرهم و سخطهم فتتجلى آلامهم في عيون أطفالهم و ميل زوجاتهم للبكاء في صمت .
ترفع عينيك لتقرأ لافتة علقها شاب على أحد المراكب " نهج لروما و لا حقرة الحكومة " . شيخ يقف الى جانبك ، سأله أحد الصحفيين قبل أن يذهب لتوديع ابنه عن الرسالة التي يريد أن يوجهها للمسؤولين فأجابه بعد أن سحب نفسا عميقا من سيجارته الرّخيصة : " زيدوا أرقدوا ، الكيس دمرنا و جوّعنا ، هانا باش نهجوا و نخليوهالكم واسعة وعريضة "  . عجوز أخرى بين الحشد تندب حظّها محاولة منع ابنها الشاب من الصعود الي المراكب التي يجهزها الصيّادون للإنطلاق . دعوات يطلقها الشيوخ على الظالمين و شتائم ووعيد بالإنتقام من المسؤولين تسمعها على لسان الشباب . كلما تقدّمت أكثر بين حشود الجماهير كلما التحمت بأفكارهم و غمرتك قصّتهم ، بسيطة و مؤلمة تجسد واقعنا المبتذل ، صيّادون بسطاء على مشارف الموت جوعا ، و مسؤولون أغبياء ينامون في العسل مع بارونات المال الفاسد . المراكب الكبيرة التي تعتمد الصيد "بالكيس" أو "الكركارة " صحّرت البحر و قضت على لقمة عيشهم و ثروة شعب بأكمله ، مراكبهم الصغيرة و معدّاتهم البدائيّة لا تمكنهم من منافستهم أو دخول الأعماق مثلهم و الحكومة تغظ في سبات عميق متعمد و لا مجال لجعلها تستفيق فممثلوها الجهويّون إما متواطؤون أو في أفضل الأحوال عاجزون عن اتخاذ أي قرار .
سأل مدوّن يحمل آلة تصوير أحد المنظمين لهذه الرّحلة :" هل استنفذتم كل أساليب النضال ؟ ألم يعد أمامكم سوى الهجرة الجماعيّة؟ "
ابتسم الرجل رغم يأسه و حنقه البادي على محيّاه :" نحن ننبح كالكلاب منذ سنوات ، منذ عهد المخلوع ، لم يسمعنا أحد ، اليوم البحر على مشارف التصحّر و نحن لا نملك من المعدّات ما يمكننا من الدخول للأعماق ، نرى لقمة عيشنا و خبز عيالنا يضيع ، السلطات تتجاهلنا و صيّادو الكيس يهددوننا ، هذا الوطن لم يعد لنا أصلا ، هل تعرف ماذا رد الوالي حين سمع عن عزمنا الهجرة ، دعهم يموتون في البحر ، بكل برودة دم ثم أمر أمن السواحل بأن يتبع الرحلة الى المياه الإقلميّة و يطبق علينا القانون اذا تجاوزنا الحدود . نحن نعلم أن هذه الرحلة ضرب من الجنون فحتى "الطّليان" رفضوا استقبالنا ، لكننا مصرّون على عزمنا ما دام هذا التجاهل مستمرا تجاه قضيّتنا ، وعودهم الكاذبة لم تعد تكفينا ، نحن في حاجة الى الخبز لا الى خطابات و وعود "
أتم الصّيادون تجهيز المراكب ، إلى هذه الساعة لم يبادر مسؤول بزيارة المكان ، لم يكن بالميناء سوى العمدة و بعض المسؤولين الأمنيين ، يراقبون من بعيد في صمت متحفزين لرد الجماهير أو ربما متعاطفين مع مأساتهم . الحادية عشر صباحا ، إنطلقت رحلة الموت ، أكثر من مآئة مركب صعد على متنها مئات من الرّكاب ، عائلات بأكملها قررت الرحيل، لا بديل: "يا حشاد يا حشاد الأهالي غادروا البلاد "
تنويه : ربما حين ستصلك هذه السطور لن تلقي لها بالا ، ستمر عليها كخبر عابر في موجز الأنباء او ربما لن تتجاوز قراءة عنوان المقال و أنت تحتسي قهوة الصّباح لأنك تعلم مسبقا أن المسؤولين سيتوصّلون عاجلا أو آجلا بطرقهم الملتوية  إلى إتفاق ، سيقدّمون وعودهم الواهية و رزمة من الأحلام تعين الصّيادين على الصمود و و في اقصى الأحوال سيفي قليل من الإرهاب و الترهيب بالغرض .
لكن من المؤكّد سيعيد أحفادنا قراءة التاريخ الحقيقي الذي ستسجّله الهوامش و سيعرفون أن في عصر أقوى حكومة على مرّ التاريخ قرر شعب عمره أكثر من ثلاثة آلاف سنة أن يترك أرضه ليفتتح موسم الهجرة الى المجهول هربا من الظلم و الجوع .

صفوان الطرابلسي
نشر في جريدة ضد السلطة 10/01/2013

jeudi 10 janvier 2013

منفستو جانفي

اليسار فدائي وملاذي الأخير، اليسار الشيوعي، الإشتراكي، الماركسي اللينيني، اليسار الذي أهدى للعالم الثورات العارمة البهية، اليسار الذي صارع من أجل حقوق الطبقة الكادحة، اليد العاملة، اليسار الملتحم والمتكلّم باسم الأغلبية المنتجة، اليسار الحالم بالمساواة والكرامة والحرية، اليسار التقدّمي، المعرفي، الجدلي، اليسار المتحفّز للحركات النسويّة، المقاوم للتمييز بين الجنسين والضارب للعقليّة الأبوية ولاحتقار المرأة، يسار الحركة النقابية،الحركة التي أعطت تونس هويتها الحقيقية ونبذت الهوية العرقية والعنصرية والدينية التي طالما ألصقت بنا.
نحن شعب اليسار، شعب النقابات والنسوي والإنساني،ضد العولمة والراسمالية وقانون السوق مع الانسان كقيمة ومعيار. هذا الشعب الذي أطّر في كل دوار ودشرة وقرية ومدينة، ثورة البوعزيزي العصريّة المتقدمة على كل الثورات. يسار المعطّلين عن العمل.
نحن أبناء محمد علي الحامي والطاهر الحدّاد أباء الثورة. أبناء عبد الرحمان الكافي، شاعر الملزومة الكافيّة، أبناء القرمادي صاحب اللّحمة الحيّة لحبيب الشابي صاحب
La fêlure، التصدع.أصدقاء « زاباتا » و »لومامبا » و »غيفارا ». لنا نشيد من وحي كاتب ياسين أبو « نجمة ». إنّه يسار حمّة الهمامي وشكري بلعيد وجلال بن بريك ورضا لينين، ومحمد الكيلاني وعبد الرزاق الهمامي ومحمد جموز…يسار ﭬرامشيولوكاتشوإتالوكلفيوينووبرتو لدبراشت وبابلو نيروداوﭬيديبور.شعر أراﭬون وروايات قوركي وفكر أكتافيوبازو سينما بازوليني كم تغنينا بساكو وﭬانزيتي. كم نحتاج إلى « وضوح رؤية » اليسار زمن تغلغل الفكر الإستبدادي الفاشي. أذكركم بالأمل الذي أرسته الجبهة الشعبية الفرنسيّة إبان الحرب العالميّة الثانية، زمن صعود الفاشيّة والنازيّة وحملة فرانكو على الجمهورية الإسبانية. لتحيا جمهورية اليسار والسقوط للامبريالية.
هللجمهورية اليسار هذه حظ التواجد اليوم وسط شعب تونس، هذا الشعب الذي في أغلبيته المطلقة له نفس المصالح والطموح والهموم والمعاناة… ونفس الأعداء كذلك؟يسارلا يغازل شعبه بالترهات والخزعبلات والوهم والشعوذة الفكرية و اللغو الخاوي و الفصاحة المرصعة بالكذب و الزيف و البهتان…إنه لا يبيع ذمته حتى وإن ومنحوه صكوك الجنّة والغفران، يا أنبياء العذاب الأليم. إن اليسار التونسي بفصائله المختلفة والمتعدّدة، حزب العمال، اجنحة الوطنيون الدمقراطيون، الترتسكيون، المجالس، هو الطرف الوحيد على الساحة السياسية الذي يطرح في خطابه وبرنامجه مشاكل وحاجة الناس في الواقع: القدرة الشرائية، الصحّة، السكن، التعليم، الشغل، النقل، المساواة، الحريات، المعرفة والعلم والإبداع و الحق في وقت للهو و اللعب و الإمتاع و المؤانسة و الضحك « باليطاش » و البكاء حينا ،يدافع عن الشّغيلة ويضمن حقوقهم، إنه مع دولة الأغلبيّة ضدّ دولة الأقليّة. أعداؤه هم أعداء الشعوب: سلطة السلاح وسلطة المال وسلطة نظرة الجمهور للدين. مع دولة العدالة ضدّ دولة الإغتراب واللاّمساواة. مع السعادة ضدّ التعاسة. مع فرض دولة تقدّمية ضدّ دولة الرجعيّة. مع العصر ضد الماضي. مع المعرفة ضدّ الجهل.
هل هذا الفصيل المتقدّم، الواعي، الإنساني والثوري له مكانة في تونس الآن وهنا؟تونس الآن وهنا؟ تونس تنتمي إلى قارة متخلفة جغرافيا وتاريخيا وسياسيا وإقتصاديا وثقافيا. شعب لا يقرأ، شعب لايفكر، لا تزال الخرافات البالية، خرافات أمي السيسي ورأس الغول، تحكمه، لا يؤمن بالعقل والمعرفة.شعب تحكمه الروابط العشائرية والعرقية والعادات والتقاليد.شعب يثور مع اليسار ويصوّت مع اليمين، يجهل مصالحه. شعب يرفع إلى سدة السلطة أعتى أعدائه ويعادي من يدافع عن قوته وكرامته وحريته. شعب يستنزفه الأثرياء ويحكمه السفسطانيون والأئمة، والانذال والسفلة. سقط المتاع وباعة الخدر. « ليتني كنت كالسيول ان سالت / تهد القبور رمسا برمس ».
إن اليسار التونسي لا مكان له في هذه التربة الحجريّة،خلا وقفار، خربة، اليسار يتواجد في مناطق تؤمن بالعصر والعلم والتقدّم، مثل أوروبا وجنوب آسيا وخاصة جنوب أمريكا حيث « براءة الإختراع » والمغامرة وهيمنة الفيزياء وأفول الميتافيزيقا.إن الملجأ الوحيد لليسار التونسي، ليكون له موقع في هذا المستنقع من الخراء، أن يتحالف مع التعبيرات السياسيّة العصريّة لدحض الملاّت والطوائف القروسطيةولإنقاذ البلاد من الردة والإنتكاس والغرق في اللاّمعقول. اما ثورة واما ارتداد اما ثورة واما ارتداد… ثم نرى.إنّ اليسار التونسي، بقيمته المعنويّة ووزنه النضالي يمكن أن يقلب الموازين ويعطي النصر للقوى العصريّة… حتى وإن لم تكن تقدميّة، قبلتها اليمين. ولكن هذا التحرك الثوري الواعي يتطلب من القادة (حمّة وشكري وجلال بن بريك), نضجا سياسيا وشجاعة وحنكة في التموقع والمناورة وفي الكر والفر وقلب الهزيمة انتصارا. لتتضح الرؤيا ونستخلص إستنتاجا بسيطا وساذجا : لفظ جماهيري لا لبس عليه لسلطة حزب النهضة.ﺃتساءل كيف لم تتفطن النخبة العضوية لهذا المعطى الأساسي في معادلةالرّبح والخسارة ؟ هنا تكمن كبوةالجواد…
اليساري الحقّ هو المتمكّن من أدوات التحليل والإستقراءوالإستنتاج ودقة التمحص والنبوغ الوضاح
LA LUCIDITE، صاحب العقل الجدلي الذي ينير السبيل. كلام أبجدي أن نستخلص الدّرس، ونقوم بالمناورة الصحيحة، حسب إمكانياتنا المتاحة.التحالف ثم التحالف وحمل المعركة إلى قلاع وأرض العدوّ… من هنا نبدأ . إنّ البلاد في أشدّ الحاجة لموقف جريء وحاسم، لحسم المعركة. فلا تخيبوا ظنّ الجميع. إنها مسألة حياة أو موت.فانهضوا ينهض بكم الشعب.الأمل بيدكم. والغبطة كذلك. لا تخونوا الوعد والموعود. وإلاّ سنقيم عليكم الحدّ. قهقهة غبي ظن أن الغول خرافة.

بقلم توفيق بن بريك

الشحاذ لأنطون تشيخوف


- ” سيدي الرحيم، كن أكثر عطفاً للاستماع إلي رجلٍ فقيرٍ جائع. لم أذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، وليست لديَّ خمسة كوبيكات لأقضي ليلتي في النزل. أقسم بالله، طيلة خمسة أعوام كنت مديراً لمدرسة وخسرت وظيفتي بسبب مكيدة دبّرها لي” زمستفو” . كنتُ ضحية شهادة غادرة. وها أنت تراني خارج مكاني المفترض، منذ عام.”
نظر” سكفورتسوف” محامي مدينة بطرسبورغ إلي المتحدث بمعطفه الأزرق الداكن الموحل والمتهريء، إلي عينيه المترقرقتين بتأثير خمرة عبّها، إلي البقع الحمر علي وجنتيه. خامرهُ ظن أنه رأي هذا الرجل من قبل.
- ” الآن عُرِضَ عليَّ عملٌ في مقاطعة كالوكا”. .. واصل الشحاذ حديثه” لكن ليست لديَّ الوسيلة للوصول إلي هناك.. لذا بكل تهذيب أرجو مساعدتكم.. اشعر بالخجل لمناشدتكم، لكن الظروف تجبرني علي ذلك”.
طالعَ سكورتسوف حذائي الشحاذ. كانت الفردة الأولي مسطحة تشبه حذاءً عاديّاً فيما الأخري لها عنق يرتفع إلي وسط الساق.. وفجأة تذكّر:
- ” اسمع! يوم قبل البارحة قابلتك في شارع سادوفوي”. .. قال المحامي” هناك لم تقل لي انك مدير مدرسة قروية ؛ بل قلت أنك طالب فُصلتَ من الدراسة، أتتذكر ذلك؟” .
- ” كـ…لا. كلا. ذلك لا يمكن أن يحصل!” راح الشحاذ يدمدم بارتباك”. أنا مدير مدرسة قروية , وإذا رغبت أظهر لك وثائق تثبت ذلك”.
- كذبك هذا يكفي! ادعيت انك طالبٌ، وأخبرتني حتي بأسباب فصلك.. أتتذكر؟
احتدمت أعماق سكفورتسوف وبدت سيماء احتقار علي وجهه تجاه الرجل الرث.
- هذه وضاعة”. . صرخ غاضباً” هذا خِداع! سأسلّمُكَ إلي البوليس. اللعنة عليك!.. أنت فقير وجائع، لكن ليس لك الحق في أن تكذب بلا حياء!” .
امسك الرجل الرث قبضة الباب كما لو كان طيراً يقع في فخ وراح يطالع ما حول القصر بيأس.
_ أنا… أنا لستُ كذاباً”. دمدمَ ” لدي من المستمسكات ما يثبت ذلك”.
- مَن يصدقُك؟” استمر سكفورتسوف ولما يزل ساخطاً” أنت تستغل عاطفة الناس مسيئاً لمدراء المدارس الريفية وللطلبة…. إنها وضاعة شديدة، ودناءة، وقذارة !.. استغلالك هذا مثيرٌ للاشمئزاز.
اعتري سكفورتسوف غضب عارم متوجها بالتوبيخ الخالي من الرحمة إلي الشحاذ بينما انبثقت في نفس الشحاذ غطرسة كاذبة معبرة عن مقت واشمئزاز، مُظهراً استياءً بما يحبه سكفورتسوف وما يختزنه من شفقة ومشاعر قلبيه وعاطفة تجاه شخصه غير السعيد. بكذبه الصارخ، بهجومه الغادر علي الحنو الذي يمتلكه الشخص دنس الشحاذ الصدقة التي كان من المقرر أن يمنحها للمساكين دون خشية في قلبه. في بداية الأمر دافع عن نفسه واحتج، مصاحباً احتجاجه بقَسمٍ، لكنه غرق بعدها في الصمت مطأطئاً رأسه، محاولا السيطرة علي خجله:
- ” سيدي”. واضعاً يده علي قلبه” أنا حقّاً كنتُ… كاذباً! أنا لستُ طالباً ولا مديراً لمدرسة ريفية. كل ذلك مجرد اختراع منّي! لقد كنتُ سابقاً في الجوقة الروسية لكني طُردتُ بسبب إدماني علي الخمر. لكن ماذا أفعل؟ صدقني والله، لا استطيع العيش بدون الكذب.. عندما أقول الحقيقة لا أحد سيساعدني. الحقيقة سيموت الإنسان من الجوع، وسيتجمد إن لم ينم ليله في النزل!.. ما قلته صحيح ؛ افهم ذلك، لكن… ماذا عليَّ أن أفعل؟
- ” ماذا عليك أن تفعل؟ تسأل ماذا عليك أن تفعل؟” صرخ سكورتسوف، مقترباً منه” اعمل.. هذا ما عليك فعله! يجب أن تعمل!” .
- ” أعمل… أعرف ذلك. لكن أين احصل علي العمل؟
- هراء.. أنت شاب قوي ومتعافي، وبإمكانك الحصول علي أي عملٍ إن أردت. لكنك تعرف في قرارة نفسك أنك متكاسل، مُدلل، سكّير! تفح الفودكا مثلما يفح” قوري” الشاي ! أصبحتَ فاسداً ويغور خطؤك حتي نخاع عظامك، لم تعُد تصلح لشيء، فقط للشحاذة والكذب!.. لو أنك سعيت بلطف للحصول علي عمل لحصلتَ عليه في مكتب مثلاً، في الجوقة الروسية، أو كصانع بيليارد حيث ستحصل علي مرتّب فلا جهداً كبيراً ستبذل. لكن هل ترغب أن تشتغل عاملاً يدويّاً؟ سوف أضمن لك هذا، لن تكون حمّال بيت أو عامل مصنع. أنت أنبل من أن تكون كذلك.
- ” أحقّاً ما تقول؟” . تكلم الشحاذ مُبدياً ابتسامة سخرية ” كيف أكون عاملاً يدويّاً؟” فات الوقت الذي أكون فيه عامل في دكان. والعمل في التجارة يستدعي أن تبدأ المهنة وأنت صغير.. ولا احد سيشغلني حمّال بيت لأني لست من هذا الصنف… لم أكن قد عملت في مصنع مسبقاً أما التجارة فيجيدها شخص يعرفها.
- هُراء! دوماً تبحث عن مبررات التهرب. ألا ترغب أن تكون قاطع أخشاب؟
- ” لا ارفض ذلك، لكن عمّال قطع الأخشاب أنفسهم الآن عاطلون عن العمل”.
- أوه، كل العاطلين يجادلون بمثل ذلك. فحالما يُعرض عليك مقترح ترفضه.. هل ترغب بأن تكون قاطع أخشاب عندي؟
بالتأكيد أرغب.
- جيد جداً.. سوف نري… ممتاز. سنري” بعصبية وامضة وبلا سرور متخابث فرك سكفورتسوف كفّيه مستدعياً طبّاخته من المطبخ.
- ” تعالي، يا أولغا.”.. قال ” خذي هذا السيد إلي السقيفة ودعيه يقطع لنا بعض الأخشاب”.
هز الشحاذ كتفيه بحركة يريد منها إظهار لا مبالاته رغم ارتباكه.وبلا رغبةٍ تبع الطبّاخة. كان واضحاً من تصرفه أنه وافق أن يذهب ويقطع الأخشاب لا لأنه جائع ويبغي كسبَ مالٍ بل لأنه ببساطة يبغي احترام الذات وتجنّب خزيٍ سيلحق به إن رفض عرض الرجل المحامي ؛ كذلك لأنه أعطي كلمته في الرغبة بالعمل. ومن الواضح أيضاً أن موافقته جاءت جراء معاناة صنعها له الإدمان علي شرب الفودكا ما جعله عليلاً، يبعده الدوار عن كل مَيلٍ للعمل.
أسرع سكفورتسوف إلي غرفة الطعام. ومن النافذة المطلة علي الفناء استطاع مشاهدة سقيفة الخشب وكل شيء يحدث في الفناء. منتصباً عند النافذة أبصر الطباخة والشحاذ يظهران علي الطريق الخلفي في الفناء ويتجهان عبر الطريق الثلجي الموحل إلي سقيفة الخشب. فتحت أولغا الباب بطريقة عنيفة.
- ” علي الأغلب قطعنا علي المرأة تناولها القهوة.” فكّر سكفورتسوف” أي مخلوقة محرومة هذه المرأة!”
شاهد مدير المدرسة المزيف والطالب المزيف يجلس علي كتلة من الخشب، محنياً خديه الأحمرين علي قبضتيه، غارقاً في التفكير. رمت الطباخة فأساً عند قدميه باصقةً بغضب علي الأرض. غضب تظهره تعبيرات شفتيها، منهالةً عليه بالسباب. سحب الشحاذ زند الخشب إليه بلا رغبة. ثبَّته بين قدميه، وبحياء مرَّر الفأس عبر الزند، فتداعي الزند وسقط. سحبه إليه ثمَ نفخ علي كفيّه المتجمدين ؛ ومرّةً أخري مرر الفأس عليه بحذر خشية أن يضرب حذاءه أو يقطع أصابع قدميه. سقط الزند مرةً أخري.
تبدد غضب سكفورتسوف تلك اللحظة وهو يرمق هذا المشهد. شعر بالخجل والحسرة معتقداً أنه اجبر المدلل السكير الذي قد يكون مريضاً من الصعب عليه أداء عمل صعب كهذا، في يوم بارد كهذا.
- ” لا تبالي. دعه يستمر في عمله…..” فكّر متحركاً من غرفة الطعام إلي المكتبة” افعل ذلك لصالحه!”
بعد مرور ساعةٍ ظهرت أولغا معلنةً إكمال تقطيع الخشب.
- إذاً. أعطه نصف روبل.”.. قال سكفورتسوف.” إذا رغب دعيه يأتي ويقطع الخشب بداية كل شهر….. سيكون ثمّة عمل دائم له”.
في بداية الشهر ظهر الشحاذ، ومرة أخري حصل علي نصف روبل علي الرغم من أنه لم يبق طويلاً. منذ ذلك الوقت ظل يواصل المجيء فيجد العمل ينتظره. بعض الأحيان كان يقوم بمهمة كنس وإزاحة الثلج من علي كومة القش أو تنظيف السقيفة. وفي عملٍ آخر يقوم بضرب السجّاد والافرشة. صار دائما يستلم ثلاثين أو أربعين كوبيكا لقاء عمله، ولم يعُد يتلقي بنطلوناً قديماً في أية مناسبة.
عندما انتقل سكفورتسوف طُلـِب منه المساعدة في حزم ونقل الأثاث. في المناسبة تلك كان الشحاذ وقوراً وعابساً وصامت. نادراً ما يمس الأثاث، ويمشي برأسٍ متدلٍّ خلف العربات حاملة الأثاث ولم يظهر أنه منشغل بالمهمة الموكلة إليه، يرتجف من البرد فحسب، ويسيطر علي ارتباكٍ جرّاء ضحك العمال المرافقين للعربة علي كسله وخموله وسترته الرثّة التي كانت يوماً ما تعود لرجلٍ نبيل.
- ” حسنا.. أري أن كلماتي أثَّرت به”. قال سكفورتسوف وهو يناوله روبلاً” هذا مقابل عملك. أري انك غير ثمل ولا نافرٍ من العمل.. ما اسمك؟
- ” لوشكوف.”
- أستطيع أن أوفر لك عملاً أفضل غير منفر، يا لوشكوف.. هل تستطيع الكتابة؟
- ” نعم سيدي”.
- ” إذاً اذهب غداً بهذه التوصية إلي زميلٍ لي وسيعطيك بعض النسخ لنسخها. اعمل بجد ولا تشرب، ولا تنسي أيضاً ما قلته لك.. إلي اللقاء”. .
سُرَّ سكفورتسوف لوضعه ليشكوف في الطريق المستقيم، رابتاً علي كتفه بلطف ومصافحاً له عند المغادرة.
تناول ليشكوف الرسالة وغادر.. ومنذ ذلك الوقت لم يحضر إلي الفناء الخلفي لبيت سكفورتسوف أبداً.
عامان مرا علي ذلك.
وفي احد الأيام ؛ وفيما كان سكفورتسوف واقفاً عند مكتب بيع بطاقات الدخول إلي المسرح يهم بدفع المبلغ المستحق لشراء تذكرة أبصر إلي جانبه رجلاً ضئيل الجسم بياقة فروها من جلد الحمل، يعتمر قبعة رثّة من جلد القطط. بجبن طلب الرجل من قاطع التذاكر تذكرةً، دافعاً بعض الكوبيكات.
- ” ألست أنت ليشكوف؟” توجه سكفورتسوف بالسؤال إلي الرجل الضئيل مدركاً أنه قاطع الأخشاب السابق.” حسنا، ماذا تعمل الآن؟ هل تسير الأمور علي ما يرام؟
- ” جيدة جداً.. أعمل الآن في مكتب كاتب العدل. واكسب خمس وثلاثين روبلاً ” .
- ” حسنا.. شكراً لله، أنا مبتهج لأجلك. سعيد، سعيد جداً يا ليشكوف. أتعرف أنك بطريقة ما مثل ولدي. فأنا مَن أرشدك إلي الدرب الصواب. هل تتذكّر أي توبيخ كنت أوجهه إليك؟ كنت ذلك الوقت تغوص خجلاً في الأرض.. حسناً. أشكرك يا عزيزي علي تذكرك لنصائحي”. .
- ” شكراً لك أيضاً” قال ليشكوف” لو لم أجيء إليك يوماً لربما بقيت لحد هذا اليوم أدعي بأني مدير مدرسة أو طالب. نعم في بيتك تمَّ إنقاذي وتسلقي خروجاً من الحفرة.
-  ” أنا مسرور. مسرور جداً” .
شكراً لكلماتك العطوفة ومآثرك. ما قلته ذلك اليوم رائعاً. أقرُّ بحسن صنيعك وصنيع طبّاختك. ليباركها الله. امرأة ذات قلب نبيل. ما قلته تلك الأيام كان رائعاً. أنا طبعاً ممتنُّ لك طالما أنا علي قيد الحياة لكن أولغا طباختك هي التي أنقذتني.
- ” كيف ذلك؟
- ” كيف؟.. كنتُ ما أن أجيء إليك لتقطيع الخشب حتي تبدأ هي:” آ، يا سكران ! يا تمبَّل، يا مَن لم يأخذك الموت لحد الآن!” . بعدها تخطو لتقف قبالتي راثيةً، محدقة في وجهي ونائحة:” أنتَ شخص غير محظوظ! لا تملك شيئاً من السعادة التي في هذا العالم، وفي المقابل سيصلونَك في النار السعير أيها السكّير المسكين! أنت مخلوق فقير وحزين!”. لقد كانت دائماً تخاطبني بهذا الأسلوب. كم كانت تُقلق نفسها َ، وكم مرة ذرفت الدموع لأجلي، لا أستطيع أن أخبرك َ. لقد أثَّرت بي كثيراً فجعلتني أتغيّر. كانت تتولي تقطيع الخشب عوضاً عني. هل تدري يا سيدي كم تغيّرتُ، وكيف تخلّيتُ عن الشرب. لا استطيع الشرح. فقط اعرف ما كانت تقوله، والسلوك النبيل الذي سلكَته في تصرفها معي فدفعني إلي التحول من أعماق روحي. لن أنسي حسن صنيعها… أنه وقت الدخول. الجرس علي وشك أن يُضرب”.
انحني لوشكوف احتراماً، وتحرك صوب صالة العرض