
كان واقفا أمام المرآة ، يتفحّص ملامحه في هدوء و يحاول
التلذذ بحالة الخدر الخفيف التي تجتاحه . كان يطالع علامات الترقب الممزوجة بالخوف
ويمرر يده فوق التجاعيد التي رسمتها الأيام على محيّاه قبل الأوان. فتح الصنبور ،
مرر يده تحت المياه الباردة ، أحس بقشعريرة لذيذة تجتاح جسده المنهك من حمى
الانتظار ، تخيل حبيبته و هي تداعب أنامله و تصل إلى قمّة النشوة من القبلة الأولى
، تخيل أنفاسها التي تحرق رئتيه و تذيب قلبه . لا يعرف أي شيطان قذف بذكراها إلى
ذهنه اليوم ، ربما الشوق و ربما لأنه يمني النفس بأن يكون اليوم آخر أيام هذا الكابوس الذي يخيم على الوطن و
يخنق أحلامه ، ربما يكون اليوم آخر أيّام النضال ليتفرّغ فيما بعد لحبها ، ليتفرّغ
لممارسة الحياة و لكتابة الاغنيات.انساب مع الخيال بعض الشيء ، لكنه تفطن أن الوقت مازال
مبكرا على هذه الأحلام الوردية ، و لكي يسترجع نفسه مرر رأسه تحت المياه الباردة و
سلم مهجته لتدفقها ، عندها فقط أحس أن الدماء عادت إلى جريانها من جديد ، نظر إلى
المرآة مرّة أخرى ، مسح قطرات الماء عن وجهه ، وضع بعض "الجال " على
شعره ، صففه بعناية و كأنه يستعد للذهاب إلى حفل ، توجه إلى الغرفة ، ارتدى سترته
السوداء ، وضع الكوفية الفلسطينية على كتف ، حمل قناع "فونديتا" في يده
اليمنى و آلة التصوير في يده اليسرى ، نزل إلى المطبخ ، حمل قطعة خبز مع بعض الجبن
على عجل ، قبّل جبين أمّة ، توقف برهة أمام صورة أبيه ، أغلق الباب وراءه و انطلق
في سيره المحموم نحو بطحاء محمد علي . هكذا بدأ يوم جهاد ، سيرا على الأقدام من الحومة إلى
البطحاء ، حاملا في جعبته القليل من الأمل و الكثير من الشك و الخوف . في الضفة
الاخرى من المدينة ، حيث يخيم الهدوء و يبدأ النهار دون عناء ، كان وزير الداخلية
، سيّد البوليس الأول ، "علي الطويّل" يقف أمام مرآته بثقة ، مطمئن
البال ، يعدل ربطة عنقه في زهو ، يرتب خصلات شعره و يرش عطره الفاخر . نزل إلى بهو
المنزل ، فتح له الحرّاس باب السيّارة ، صعد بتأن مبالغ فيه ، وجد الجرائد على
المقعد ، أخذ يطالعها بشكل روتيني ، يتفحص العناوين في ضجر بينما ينطلق الموكب
تاركا وراءه الحي غاطا في سباته المعهود . لم يكن هناك شيء ينبؤ بالعاصفة سوى هذا
الهدوء الغادر و بعض الشعارات التي رسمت على الجدران ، طبعا نظرا لانشغاله الكبير
لم يعرها السيد الوزير انتباها ، مجرّد خزعبلات صبيانية لم يحن الوقت بعد لإدراجها
في حساباته . كل الطرقات كانت
مقفرة ، لذلك وصل الموكب بسرعة الى الوزارة ، هذا أيضا لم يدخل في حساب الوزير .
إضراب عام ؟؟ و ما الإشكال ، دعهم يصرخون و يتظاهرون كما يشاءون ، الكلاب تعوي و
القافلة تسير ، الكلمة الفصل في النهاية ستكون من نصيبه ، هو من يملك سلطة السلاح
و المال ، الغاز المسيل للدموع ، الرش و الرصاص الحي في أقصى الأحوال سيفي بالغرض و سيرغمهم على
العودة الى جحورهم و ستتكفل المليشيات والعصابات فيما بعد بإتمام المهمّة . نزل من
سيّارته في بهو الوزارة ، نفض الغبار عن سترته في حركة روتينيّة ، تفحّص الجو
العام ، هدوء تام ، فرق البوليس تحيط المكان و تأمنه من الخلف و من الأمام ، لا
شيء يدعو للقلق ، الآن يمكنه الاتصال بالشيخ و تطمينه ، الوضع تحت السيطرة . سحب
هاتفه النقال ، اتصل و لكن الهاتف خارج الخدمة ، لا بأس سيعاود الاتصال فيما بعد .
صعد إلى مكتبه مباشرة ، وجد مستشاره الإعلامي و الناطق الرسمي باسم الوزارة ،
السيّد "خالد بلعوط" في انتظاره و في جعبته كل الأخبار ، لم يناقشه
طويلا و يكثر من التعليمات ، فهذا السيد محترف في فن الكذب و المغالطات و لا يستحق
التوجيه ، تصريحاته و تدخلاته تم تحضيرها منذ البارحة ، كل الأمور مدروسة سلفا ،
كل الافتراضات تم صياغتها و تحضير خطة لرد الفعل نحوها ، كل شيء تحت السيطرة . خرج
المستشار حاول الوزير الإيصال بالشيخ مرّة أخرى ، دون جدوى الهاتف خارج الخدمة .في الضفة الأخرى كانت الحرارة ترتفع رويدا رويدا ،
الجماهير بدأت تتوافد ، البطحاء صارت تضيق بمرتاديها الذين يتسرّبون من كل الأزقة
تحت نظرات البوليس الحاقدة ، الشعارات ازدادت حدّة و انطلقت المشاحنات بين الصفوف
الأمامية و طوق الأمن . في هذا الخضم كان جهاد يرتدي القناع و يتنقل من مكان إلى
آخر يعاين الأوضاع ، يلتقط بعض الصور و يهيئ نفسه للصراع ، هذا اليوم لن يمر دون
عناء ، هذا اليوم لن يمر دون دماء ، كل المؤشرات تنبؤ بهذا . لا مفر من الصّدام ،
هذا البلد وصل إلى عنق الزجاجة ، الطريق أمامه مسدود و عليه أن يزيح عقبة الظلام
التي أمامه ، للأسف ليس هنالك من مفر، فترى من سيكون اليوم ضحيّة القدر ؟تواصلت المشاحنات بعض الوقت و حين وصلت إلى ذروتها و
امتلأت البطحاء على آخرها ، قرر المتظاهرون الذهاب إلى شارع الحبيب برقيبة و تصعيد
التحدي إلى أقصاه ، حاول طوق الأمن منعهم ، لكنهم في كل محاولة كانوا يستفزون عزائمهم
و يؤججون نار العناد داخلهم ،فترفع الشعارات و ترتفع صور أجدادهم العظام و تهتف
الجماهير بإسقاط النظام . فجأة فتح الطوق الأمني و سمح للمسيرة بالمرور إلى الشارع
الرئيسي ، كان الأمر غريبا بعض الشيء ، الجميع توجّس من الأمر ، لكن ليس هنالك من
مفر و الوجهة وزارة الداخلية ، انطلقت الجموع أفواجا أفواجا تحتل الشوارع و الأزقة
، الخلفية منها و الرئيسيّة و استقر المتظاهرون بالآلاف في شارع الحبيب برقيبة
يهتفون بحياة الإتحاد و إسقاط الحكومة . عندها بدأ الجميع يلاحظ حركة غريبة في
صفوف الأمن ، و لوحظ خروج بعض الوجوه الغريبة من الأزقة الجانبيّة ، إلى أن صعد
أحد رجال البوليس مرتديا بذلته السوداء و نياشينه اللامعة تبرق فوق كتف و أمر
المتظاهرين بإخلاء المكان ، طبعا رفض الجميع و جهزوا أنفسهم للجزء التالي من
المسلسل ، قوارير مياه غازية و رقاقات الليمون كانت الوسيلة الأنجع لتخفيف تأثير
الغاز ، أما الشباب فقد ارتدوا أقنعتهم و تشبثوا بأسلحتهم ، ففي هذا الوطن لا
تنتهي التحرّكات سلميّة كما بدأت ، ووحشية البوليس لا تجابه برمي الورود.طبعا ما إن اتهى الضابط من التهديد حتى انتقل الأعوان
لتنفيذ الوعيد ، ليكتشف المتظاهرون أنهم لن يواجهوا اليوم عدوهم الكلاسيكي فقط ،
فبينهم كان العديد من المندسين ، ما إن تلقوا الإشارة حتى انتشروا داعمين للبوليس
، منكلين بكل من كانوا مضربين. ولكن هذه المرّة لن تسلم الجرة ، فالشباب كانوا
مستعدين ، و هم عازمون على الثأر ، و الوصول إلى مبتغاهم ، الثورة تشتعل من جديد .
" للظالم يوم و للمظلوم يومان " ، "لا تصالح ولو منحوك الذهب
" ، هذا هو شعارهم ، عيون السليانية لم يغادرها الضوء من أجل لا شيء ، عرق
البوزيديّة و أولاد المناجم ، تلك الدماء التي سالت في البطحاء ، دماء الجرحى التي
لم تجف و وصايا الشهداء كلها على عاتقهم دين و اليوم عليهم بالوفاء . انطلقت
الثورة من جديد و كان جهاد رغم الخوف الذي يمزق قلبه سعيدا ، لم يكن خبيرا بفن
المعارك ، لكنه رغم ذلك كان في الصفوف الأمامية ، يحمل آلة التصوير في يد و حجرا
في اليد الأخرى ، كان منتشيا إلى ابعد الحدود ، بعض الخطوات و تتحقق الأحلام ، من
هنا من ربوع هذا الوطن سيسقط النظام ، لم يكن يتصوّر أنه سيكون الرقم الرّابح قي
دولاب القدر المرير ، لم يتصوّر أن الأوامر ستصدر بإطلاق الرصاص دون تحذير و دون
مقدمات .تفرّقت الجموع و ابتعدت أصوات الرّفاق ، بينما كان جهاد
جاثيا على ركبتيه و الموت يحدق في عينيه ، كانت الرّصاصة قد اخترقت قلبه مباشرة ،
لكنه لم يسلم قبل أن يلتقط آخر صورة ، صورة قاتله الذي لاذ بالفرار ، توقف الجميع
مع صوت أول رصاصة ، تراجع رجال البوليس و تقدم الرّفاق من جهاد ، حملوه على أذرعهم
، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، لم يتحسّر على شيء ، فقط تذكر صورة حبيبته مرّة أخرى
، لا يعرف لماذا عادت صورتها إلى ذهنه من جديد ، تذكر لمستها ، قبلتها و انكمش
قلبه عندما تخيل نزول دمعتها .سرى خبر استشهاد جهاد كالنار في الهشيم ، خرج أولاد
الحوم الشعبية ، أولاد الحفيانة و العريانة و إلّي قلوبهم من الهم مليانة . نزل
الرّجال و النساء ، نزل الغوغاء و احتل
الشباب الشوارع .اليوم لم يعد هناك مجال للنواح و البكاء ، إمّا النصر أو الفناء .
انطلق العصيان ، و آن أوان الطوفان . في هذه الأثناء كان السيّد الوزير و مستشاره
البلعوط يتحصّنان في وزارة الإرهاب ، كانا يجلسان خلف المكتب و يرتعدان لكل خبر ،
الخروج من الوزارة و الهرب بات صعبا ، المواجهات في الخارج محتدمة و تأمين الطريق
مستحيل ، في كل زقاق يوجد كمين ، و الأخبار تسري عن عصيان في صفوف الجيش و الأمن .
الاتصالات تتهافت من كل مكان و الأخبار كثيرة و متضاربة ، الوزير يحاول الاتصال
بالشيخ منذ ساعات لكن دون جدوى ، الرّعب يجتاحه من رأسه إلى أخمص قدميه و لكنّه مع
ذلك يتظاهر بالصمود . مرّت ساعات على
هذا الحال ، فجأة توقف إطلاق النار و سرى هدوء مريب ، ثم انطلق لغط في ممر المكتب
و فتح الباب بشكل مفاجئ و عنيف ، دخل ضابطان من القوّات الخاصّة .-" سيّدي الوزير ، لقد انتهت اللعبة ، أنت رهن
الاعتقال ، أرجو أن تأتي معنى دون شوشرة و أن لا تضطرّنا لاستعمال العنف "
قال أحدهما بجفاء ، لقد حصل المحال و اختنقت الكلمات داخل حنجرة الوزير ، مسح
حبّات العرق البارد التي تصببت من جبينه ، فتح فقل قميصه و مسّد رقبته ، أتى أحد
الضباط و حمله من ذراعه ، لم يفكر حتى في المقاومة ، بينما اهتم الآخر بالمستشار ،
نزلى إلى السيّارة تحت نظرات الأعوان المبهمة و الشامتة ، ركبا و الرعب ينتهكهما ،
و إنطلق الموكب نحو القصر الرّئاسي ، لكن هذه المرّة كان يرى الشوارع في حلة
مختلفة ، غادرها هدوء الرتابة المعهود و اشتعلت النيران في كل جانب ، وقف الرجال
في كل زقاق ، و سالت الدماء على كل رصيف لترسم الحدود ، لا مجال للمرور دون مباركة
الشعب .وصل الموكب القصر ، دخلوا البهو العظيم ، كان الجو
جنائزيا ، الجميع جالسين و في الحسرة منغمسين
، جنرالات نزعت عن أكتافها الشعارات و النياشين ، وزراء غادروا مقاعدهم الوثيرة و
هم الآن أذلاء ، وحده الرئيس" زوكي " كان جالسا في ركن بعيد ، يلبس معطف
النوم و يحتسي النبيذ ، حين رأى الوزير يتفحص الوجوه في فضول و كأنه يبحث عن إجابة
ما فهم ما يدور في خلده و بادره مستهزئا :" لا تبحث عن الشيخ ، مؤكد أنه سيدعو لنا بالرحمة
في صلاته ، لكن الله لن يستجيب لأن ضباب لندن كثيف و فيه يضل الدعاء الطريق
""""""""'' ثم كرع ما تبقى من كأسه دفعة واحدة
.
صفوان الطرابلسي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire