vendredi 14 décembre 2012

مذكرات الخميس الأسود


كان واقفا أمام المرآة ، يتفحّص ملامحه في هدوء و يحاول التلذذ بحالة الخدر الخفيف التي تجتاحه . كان يطالع علامات الترقب الممزوجة بالخوف ويمرر يده فوق التجاعيد التي رسمتها الأيام على محيّاه قبل الأوان. فتح الصنبور ، مرر يده تحت المياه الباردة ، أحس بقشعريرة لذيذة تجتاح جسده المنهك من حمى الانتظار ، تخيل حبيبته و هي تداعب أنامله و تصل إلى قمّة النشوة من القبلة الأولى ، تخيل أنفاسها التي تحرق رئتيه و تذيب قلبه . لا يعرف أي شيطان قذف بذكراها إلى ذهنه اليوم ، ربما الشوق و ربما لأنه يمني النفس بأن يكون اليوم  آخر أيام هذا الكابوس الذي يخيم على الوطن و يخنق أحلامه ، ربما يكون اليوم آخر أيّام النضال ليتفرّغ فيما بعد لحبها ، ليتفرّغ لممارسة الحياة و لكتابة الاغنيات.انساب مع الخيال بعض الشيء ، لكنه تفطن أن الوقت مازال مبكرا على هذه الأحلام الوردية ، و لكي يسترجع نفسه مرر رأسه تحت المياه الباردة و سلم مهجته لتدفقها ، عندها فقط أحس أن الدماء عادت إلى جريانها من جديد ، نظر إلى المرآة مرّة أخرى ، مسح قطرات الماء عن وجهه ، وضع بعض "الجال " على شعره ، صففه بعناية و كأنه يستعد للذهاب إلى حفل ، توجه إلى الغرفة ، ارتدى سترته السوداء ، وضع الكوفية الفلسطينية على كتف ، حمل قناع "فونديتا" في يده اليمنى و آلة التصوير في يده اليسرى ، نزل إلى المطبخ ، حمل قطعة خبز مع بعض الجبن على عجل ، قبّل جبين أمّة ، توقف برهة أمام صورة أبيه ، أغلق الباب وراءه و انطلق في سيره المحموم نحو بطحاء محمد علي .  هكذا بدأ يوم جهاد ، سيرا على الأقدام من الحومة إلى البطحاء ، حاملا في جعبته القليل من الأمل و الكثير من الشك و الخوف . في الضفة الاخرى من المدينة ، حيث يخيم الهدوء و يبدأ النهار دون عناء ، كان وزير الداخلية ، سيّد البوليس الأول ، "علي الطويّل" يقف أمام مرآته بثقة ، مطمئن البال ، يعدل ربطة عنقه في زهو ، يرتب خصلات شعره و يرش عطره الفاخر . نزل إلى بهو المنزل ، فتح له الحرّاس باب السيّارة ، صعد بتأن مبالغ فيه ، وجد الجرائد على المقعد ، أخذ يطالعها بشكل روتيني ، يتفحص العناوين في ضجر بينما ينطلق الموكب تاركا وراءه الحي غاطا في سباته المعهود . لم يكن هناك شيء ينبؤ بالعاصفة سوى هذا الهدوء الغادر و بعض الشعارات التي رسمت على الجدران ، طبعا نظرا لانشغاله الكبير لم يعرها السيد الوزير انتباها ، مجرّد خزعبلات صبيانية لم يحن الوقت بعد لإدراجها في حساباته . كل الطرقات كانت مقفرة ، لذلك وصل الموكب بسرعة الى الوزارة ، هذا أيضا لم يدخل في حساب الوزير . إضراب عام ؟؟ و ما الإشكال ، دعهم يصرخون و يتظاهرون كما يشاءون ، الكلاب تعوي و القافلة تسير ، الكلمة الفصل في النهاية ستكون من نصيبه ، هو من يملك سلطة السلاح و المال ، الغاز المسيل للدموع ، الرش و الرصاص الحي  في أقصى الأحوال سيفي بالغرض و سيرغمهم على العودة الى جحورهم و ستتكفل المليشيات والعصابات فيما بعد بإتمام المهمّة . نزل من سيّارته في بهو الوزارة ، نفض الغبار عن سترته في حركة روتينيّة ، تفحّص الجو العام ، هدوء تام ، فرق البوليس تحيط المكان و تأمنه من الخلف و من الأمام ، لا شيء يدعو للقلق ، الآن يمكنه الاتصال بالشيخ و تطمينه ، الوضع تحت السيطرة . سحب هاتفه النقال ، اتصل و لكن الهاتف خارج الخدمة ، لا بأس سيعاود الاتصال فيما بعد . صعد إلى مكتبه مباشرة ، وجد مستشاره الإعلامي و الناطق الرسمي باسم الوزارة ، السيّد "خالد بلعوط" في انتظاره و في جعبته كل الأخبار ، لم يناقشه طويلا و يكثر من التعليمات ، فهذا السيد محترف في فن الكذب و المغالطات و لا يستحق التوجيه ، تصريحاته و تدخلاته تم تحضيرها منذ البارحة ، كل الأمور مدروسة سلفا ، كل الافتراضات تم صياغتها و تحضير خطة لرد الفعل نحوها ، كل شيء تحت السيطرة . خرج المستشار حاول الوزير الإيصال بالشيخ مرّة أخرى ، دون جدوى الهاتف خارج الخدمة .في الضفة الأخرى كانت الحرارة ترتفع رويدا رويدا ، الجماهير بدأت تتوافد ، البطحاء صارت تضيق بمرتاديها الذين يتسرّبون من كل الأزقة تحت نظرات البوليس الحاقدة ، الشعارات ازدادت حدّة و انطلقت المشاحنات بين الصفوف الأمامية و طوق الأمن . في هذا الخضم كان جهاد يرتدي القناع و يتنقل من مكان إلى آخر يعاين الأوضاع ، يلتقط بعض الصور و يهيئ نفسه للصراع ، هذا اليوم لن يمر دون عناء ، هذا اليوم لن يمر دون دماء ، كل المؤشرات تنبؤ بهذا . لا مفر من الصّدام ، هذا البلد وصل إلى عنق الزجاجة ، الطريق أمامه مسدود و عليه أن يزيح عقبة الظلام التي أمامه ، للأسف ليس هنالك من مفر، فترى من سيكون اليوم ضحيّة القدر ؟تواصلت المشاحنات بعض الوقت و حين وصلت إلى ذروتها و امتلأت البطحاء على آخرها ، قرر المتظاهرون الذهاب إلى شارع الحبيب برقيبة و تصعيد التحدي إلى أقصاه ، حاول طوق الأمن منعهم ، لكنهم في كل محاولة كانوا يستفزون عزائمهم و يؤججون نار العناد داخلهم ،فترفع الشعارات و ترتفع صور أجدادهم العظام و تهتف الجماهير بإسقاط النظام . فجأة فتح الطوق الأمني و سمح للمسيرة بالمرور إلى الشارع الرئيسي ، كان الأمر غريبا بعض الشيء ، الجميع توجّس من الأمر ، لكن ليس هنالك من مفر و الوجهة وزارة الداخلية ، انطلقت الجموع أفواجا أفواجا تحتل الشوارع و الأزقة ، الخلفية منها و الرئيسيّة و استقر المتظاهرون بالآلاف في شارع الحبيب برقيبة يهتفون بحياة الإتحاد و إسقاط الحكومة . عندها بدأ الجميع يلاحظ حركة غريبة في صفوف الأمن ، و لوحظ خروج بعض الوجوه الغريبة من الأزقة الجانبيّة ، إلى أن صعد أحد رجال البوليس مرتديا بذلته السوداء و نياشينه اللامعة تبرق فوق كتف و أمر المتظاهرين بإخلاء المكان ، طبعا رفض الجميع و جهزوا أنفسهم للجزء التالي من المسلسل ، قوارير مياه غازية و رقاقات الليمون كانت الوسيلة الأنجع لتخفيف تأثير الغاز ، أما الشباب فقد ارتدوا أقنعتهم و تشبثوا بأسلحتهم ، ففي هذا الوطن لا تنتهي التحرّكات سلميّة كما بدأت ، ووحشية البوليس لا تجابه برمي الورود.طبعا ما إن اتهى الضابط من التهديد حتى انتقل الأعوان لتنفيذ الوعيد ، ليكتشف المتظاهرون أنهم لن يواجهوا اليوم عدوهم الكلاسيكي فقط ، فبينهم كان العديد من المندسين ، ما إن تلقوا الإشارة حتى انتشروا داعمين للبوليس ، منكلين بكل من كانوا مضربين. ولكن هذه المرّة لن تسلم الجرة ، فالشباب كانوا مستعدين ، و هم عازمون على الثأر ، و  الوصول إلى مبتغاهم ، الثورة تشتعل من جديد . " للظالم يوم و للمظلوم يومان " ، "لا تصالح ولو منحوك الذهب " ، هذا هو شعارهم ، عيون السليانية لم يغادرها الضوء من أجل لا شيء ، عرق البوزيديّة و أولاد المناجم ، تلك الدماء التي سالت في البطحاء ، دماء الجرحى التي لم تجف و وصايا الشهداء كلها على عاتقهم دين و اليوم عليهم بالوفاء . انطلقت الثورة من جديد و كان جهاد رغم الخوف الذي يمزق قلبه سعيدا ، لم يكن خبيرا بفن المعارك ، لكنه رغم ذلك كان في الصفوف الأمامية ، يحمل آلة التصوير في يد و حجرا في اليد الأخرى ، كان منتشيا إلى ابعد الحدود ، بعض الخطوات و تتحقق الأحلام ، من هنا من ربوع هذا الوطن سيسقط النظام ، لم يكن يتصوّر أنه سيكون الرقم الرّابح قي دولاب القدر المرير ، لم يتصوّر أن الأوامر ستصدر بإطلاق الرصاص دون تحذير و دون مقدمات .تفرّقت الجموع و ابتعدت أصوات الرّفاق ، بينما كان جهاد جاثيا على ركبتيه و الموت يحدق في عينيه ، كانت الرّصاصة قد اخترقت قلبه مباشرة ، لكنه لم يسلم قبل أن يلتقط آخر صورة ، صورة قاتله الذي لاذ بالفرار ، توقف الجميع مع صوت أول رصاصة ، تراجع رجال البوليس و تقدم الرّفاق من جهاد ، حملوه على أذرعهم ، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، لم يتحسّر على شيء ، فقط تذكر صورة حبيبته مرّة أخرى ، لا يعرف لماذا عادت صورتها إلى ذهنه من جديد ، تذكر لمستها ، قبلتها و انكمش قلبه عندما تخيل نزول دمعتها .سرى خبر استشهاد جهاد كالنار في الهشيم ، خرج أولاد الحوم الشعبية ، أولاد الحفيانة و العريانة و إلّي قلوبهم من الهم مليانة . نزل الرّجال و النساء ، نزل الغوغاء  و احتل الشباب الشوارع .اليوم لم يعد هناك مجال للنواح و البكاء ، إمّا النصر أو الفناء . انطلق العصيان ، و آن أوان الطوفان . في هذه الأثناء كان السيّد الوزير و مستشاره البلعوط يتحصّنان في وزارة الإرهاب ، كانا يجلسان خلف المكتب و يرتعدان لكل خبر ، الخروج من الوزارة و الهرب بات صعبا ، المواجهات في الخارج محتدمة و تأمين الطريق مستحيل ، في كل زقاق يوجد كمين ، و الأخبار تسري عن عصيان في صفوف الجيش و الأمن . الاتصالات تتهافت من كل مكان و الأخبار كثيرة و متضاربة ، الوزير يحاول الاتصال بالشيخ منذ ساعات لكن دون جدوى ، الرّعب يجتاحه من رأسه إلى أخمص قدميه و لكنّه مع ذلك يتظاهر بالصمود . مرّت ساعات على هذا الحال ، فجأة توقف إطلاق النار و سرى هدوء مريب ، ثم انطلق لغط في ممر المكتب و فتح الباب بشكل مفاجئ و عنيف ، دخل ضابطان من القوّات الخاصّة .-" سيّدي الوزير ، لقد انتهت اللعبة ، أنت رهن الاعتقال ، أرجو أن تأتي معنى دون شوشرة و أن لا تضطرّنا لاستعمال العنف " قال أحدهما بجفاء ، لقد حصل المحال و اختنقت الكلمات داخل حنجرة الوزير ، مسح حبّات العرق البارد التي تصببت من جبينه ، فتح فقل قميصه و مسّد رقبته ، أتى أحد الضباط و حمله من ذراعه ، لم يفكر حتى في المقاومة ، بينما اهتم الآخر بالمستشار ، نزلى إلى السيّارة تحت نظرات الأعوان المبهمة و الشامتة ، ركبا و الرعب ينتهكهما ، و إنطلق الموكب نحو القصر الرّئاسي ، لكن هذه المرّة كان يرى الشوارع في حلة مختلفة ، غادرها هدوء الرتابة المعهود و اشتعلت النيران في كل جانب ، وقف الرجال في كل زقاق ، و سالت الدماء على كل رصيف لترسم الحدود ، لا مجال للمرور دون مباركة الشعب .وصل الموكب القصر ، دخلوا البهو العظيم ، كان الجو جنائزيا ،  الجميع جالسين و في الحسرة منغمسين ، جنرالات نزعت عن أكتافها الشعارات و النياشين ، وزراء غادروا مقاعدهم الوثيرة و هم الآن أذلاء ، وحده الرئيس" زوكي " كان جالسا في ركن بعيد ، يلبس معطف النوم و يحتسي النبيذ ، حين رأى الوزير يتفحص الوجوه في فضول و كأنه يبحث عن إجابة ما فهم ما يدور في خلده و بادره مستهزئا :" لا تبحث عن الشيخ ، مؤكد أنه سيدعو لنا بالرحمة في صلاته ، لكن الله لن يستجيب لأن ضباب لندن كثيف و فيه يضل الدعاء الطريق """"""""''  ثم كرع ما تبقى من كأسه دفعة واحدة .

صفوان الطرابلسي                                                   

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire