لم يكن من طباع أبي
الانفعال المفاجئ ، و لكنه لم يستطع أن يتمالك نفسه حين سمع الخبر ، رمى الحاسوب
بشكل مفاجئ على الأريكة و سحب سيجارة من علبتي التي كانت في معطفي المسدل إلى
جانبه . جميع من في الغرفة استغرب ذلك ، إذ كان قد هجر التدخين منذ زمن ، جذب
الدخان بعنف و زفر زفرة طويلة و قاسية ، نظر إليّ نظرة حرّكت داخلي الشك ،
ثم أشاح بوجهه ليداري دمعة قبل نزولها .
حملت الحاسوب ، قرأت
الخبر باحتراز ، " الحكم على الشاعر القطري محمد العجمي بالسجن المؤبد
..." ، قد لا يعني هذا للكثيرين شيئا و لكنه لوالدي قد يعني توقف الزمن . كنت
أعرف حبه للشعر و حلم شبابه بأن يكون شاعرا . كان يعتبر أن الشعر صرخة الروح
لتفجير الألم المكبوت داخلها ، كان الشاعر في قاموسه ضمير الأمة حين تموت
داخلنا الضّمائر.
نظر إليّ بحزن بالغ
لم أره في عينيه منذ زمن ، منذ إعدام صدّام يوم عيد الاضحى على ما أذكر ، ربّت على
كتفي ثم خرجت الكلمات ثقيلة من فمه : " لا ترخي العنان لقلمك ، ها قد بدؤوا
باصطياد ضمائرنا ، و شعب بدون شعر شعب مهزوم كما تعلم ، هذه الأرض يا بني أرض
الشعراء ، لقحت بالكلمات منذ الأزل ، هذه الأرض بكاها درويش علنا ذات مساء و
تساءل كيف يشفى من حبها ، هذه الأرض أتاها نزار عاشقا من دمشق و تعلّم بين يديها
أصول العشق ، هذه الأرض سيعيش لأجلها محمد ما تبقى من سنينه في سرداب ،
ويذوق صنوف العذاب . و ان حبسوا ابن الذئب ، فالذئب نفس لا يزال خارج القضبان
و سنتحوّل جميعا إلى ذئاب ، ننهش من لحم مغتصبه و
مغتصبنا ، نشرب من دمه و نغسّله به ، عار علينا إن لم ننتقم و تركنا ثأرنا يضيع
كالسراب . علينا أن نذكر دائما أن هذا النبي رفع قهره قائلا "كلنا
تونس" فهل تعي يا بني ماذا تعني هذه الكلمات ، لقد تبرّأ من ملوك الجهل
هؤلاء و نسب نفسه إلينا طامعا في نور ثورتنا فحاذر أن يخيب أمل الشعراء إذ
تصيبنا بعد الخيبة لعنتهم و تذكّر أن شعبا دون شعر شعب مهزوم ."
ألقى عليّ تلك
الكلمات بتأثير مسرحي كان يرتجله في تلك الحالات الصعبة ، أنا أيضا اختطفت دمعة
قبل نزولها ، تذكرت صورة لشاب إسباني أو يوناني ، كان يرفع علم تونس أمام البرلمان
وسط حشود غاضبة تهتف من أجل التحرر و من الحق في حياة سعيدة ، ثم كيف انطلق
البوليس في تفريق المظاهرة بوحشية مرعبة . كان المصور قد التقط عدت صور للشاب و هو
تحت أقدام البوليس ، يرفسونه و يضربونه لكنه رغم ذلك بقي متشبثا بالعلم كمن يتشبث
بآخر رمق في الحياة .
كل هذا جعلني أشعر
بالخجل و بالتقصير ، الكثيرون استلهموا و لازالوا يستلهمون من ثورتنا زادهم للنضال
، بينما نحن نقف قوّادين أما غرفتها ، نستقبل كل زناة الليل و نتاجر بشرفها علنا ،
لا نقدر حجم المسؤولية التي على أكتافنا ، لا نقدر حجم الأمل الذي بعثناه للعالم
حين كسرنا النبوءة التي جزمت بأن الثورة الإيرانية هي آخر الثورات و توجنا هذا
القرن بثورة وقف لجلالها كل أحرار العالم . لذلك حين تنتمي لهذه الأرض التي
لقحها الشعر ، تذكر أن كل قضايا المظلومين في العالم قضيّتك ، تذكر أنك لا تحيا
لنفسك فخلفك أحلام آلف البشر ، تذكر أنك حين تحرر نفسك تحرر من خلالك العالم بأسره
و أنه ليس لك الحق أن تتوقف في منتصف الطريق.
صفوان الطرابلسي
ضد السلطة 22/12/2012
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire