dimanche 30 décembre 2012

آخر الرّؤساء المحترمين

دخل القصر مهتاجا ، مغتاظا ، تتبعه جمهرة من الحرّاس و المستشارين . رمى برنسه المبلل لأول خادم اعترضته عند الباب ، كمن يتخلص من لعنة أثقلته . الخادم المسكينة اصابها الذهول ، إذ لم تره على هذه الحالة قط ، و قد ازدادت ذهولا عندما اشتمت رائحة عفونة . خامرها الشك ، فحصت ملابسها لكنها سرعان ما اكتشفت أنها رائحة بقايا الطماطم المختمرة التي التصقت ببرنس الرئيس و سترات الحرّاس الذين توجهوا لتنظيف بدلاتهم ما إن أنهوا تأمين الموكب . كبتت ابتسامتها و انسحبت بسرعة قبل ان تنفجر ضاحكة في غرفة الغسيل و هي تروي لصديقاتها الحادثة محاولة تقليد الرئيس و هو يرعد و يزبد و يطوح برأسه و يديه في الهواء في حركات متشنجة و قد صار وجهه الأسمر أقرب إلى الزرقة من شدة الحنق ، كانت قد نفشت شعرها و أخذ اللعاب يتطاير من فمها في محاكاة ساخرة للمشهد بينما زميلاتها يجتهدن في كبت ضحكاتهنّ حتى لا تسمعهنّ المشرفة . 
صرف الرئيس مستشاريه بصرخة دوّى لها البهو و تردد صداها في أرجاء القصر ، حتى أن الخادم التي كادت تغفو على المكنسة الكهربائيّة و هي تنظّف غرفة نومه ، انتفضت في مكانها مرتعدة و سارعت بالخروج عندما أحسّت بخطواته تقترب . دخل يحاور نفسه بكلمات غير مفهومة ، أخذ قارورة النبيذ من خزانة صغيرة ، فتحها بصعوبة ، يداه ترتعشان بشدّة من فرط الغضب . استلقى على سريره برهة ، أغمض عينيه ، تنفّس بعمق ، حاول طرد هواجسه و تخفيف هياجه ، تناول جرعة من النبيذ ، سحب قارورة الدواء من جيبه و ابتلع حبّة مع جرعة ثانية . عندما أعطى المهدّئ مفعوله و أحس ببعض الراحة و الاسترخاء ، وقف قبالة المرآة كي يغير طقم ملابسه و مع كل قطعة ينتزعها كانت تهاجمه افكار غريبة ، افكار اجتهد طيلة سنتين في طردها من دماغه ، افكار قتلها في وجدانه منذ أن احترف السياسة .
وقف عاريا أمام المرآة ، لم يترك سوى سرواله الداخلي ، أحس و كأنّه ينزل عن كاهله ثقل الدنيا ، تناول جرعة كبيرة من النبيذ ، كان حارا و حارقا . نظر الى وجهه و كأنه يراه للمرّة الأولى ، لمن هذه السحنة يا ترى ، من صاحب هذه الصورة المعلّقة ؟
راجع كل شريط الرحلة و هذا الاحتفال المشؤوم . تذكر نزوله من السيّارة ، ابتسامات النفاق المرسومة على وجوه المسؤولين الجهويين ، عباراتهم المتملّقة ، قلقه إزاء الهتافات الغاضبة خارج الولاية و تطمينات مستشاريه المتواطئة.
تذكر خطواته و هو يصعد درج المنصّة ، تلك المعلقات التي كتب عليها شعار المهرجان ، ابتسم ابتسامة ساخرة و هو يتذكر هذا القدر من الابتذال لكنه سرعان ما انكمش حين مرّت أمامه فجأة صورة الجماهير الغاضبة ، أرعبه الرفض الذي استقبل به و الحقد الدفين الذي طالعه في نظرات عيونهم ، أحزنه الأسى الذي رسم على تقاسيم  وجوههم المرهقة و بريق الصمود الذي تجسّد في صيحاتهم الحانقة . كم يحتقر نفسه الآن حين يتذكر الكلمات المرتجلة و هو يحاول أن يهدّئ جماهيرا أدماها الفقر، بوعود يعرف مسبقا أنها مزيفة وواهية كعرشه الذي يجلس عليه . يكذب و يعرف أن من يستمع إليه يعرف أنه يكذب و لكنه رغم ذلك يتمادى بوقاحة خنزير بري ، ضاربا عرض الحائط مبادئه و كرامة شعبه .
الآن بات متيقّنا من الأسباب التي جعلته يخسر في سنة احترام الجميع ، اذا كان هو لم يعد يحترم نفسه ، يتصرّف و كأنه شخص آخر . ما الذي كان ينتظره من هؤلاء المساكين الذين أضناهم الجوع  و فتكت بشبابهم البطالة . أكان ينتظر أن يستقبلونه بالورود ويرشقونه بالحلوى وهو يزورهم حاملا حقيبة  من الأكاذيب في عيد ثورة كانوا هم حطبها و رأس حربتها ، ثورة كانت آخر آمالهم و هو أول راكب عليها و أول من ساهم في بناء ضريحها و شاهد الزّور الأساسي على اغتصابها في العلن . ما الذي كان ينتظره غير رشقه بالحجارة و بقايا الخضار الفاسدة ، رئيس الحكومة كان أكثر واقعية منه ، درس الوضع جيّدا و عرف متى يصاب بالزّكام ، أما هو فقد أعماه غروره و صدق الكذبة التي اخترعها.
ما آلمه حقا ، لم يكن الحادث في حد ذاته ، بل أن عمليّة الطرد كانت تتكرر كلّما زار تلك الجهات المحرومة و هو رغم ذلك يعمي بصيرته و يتهم يمينا و شمالا حتى ينسي و ينسى الحادثة و يعود الى حياته المعهودة و كأن شيئا لم يكن . لم يفكر في يوم من الأيام ، أن تلك الوجوه المغتاظة التي كانت تستقبله بشعارات التنديد هي نفسها التي استقبلته ذات يوم بابتسامات الأمل حين كان طبيبا يقود حملات العلاج التطوّعيّة في المناطق الداخليّة . ما آلمه حقا ، أنه تحول من طبيب يداوي ما تخلفه سياط الجلاد ، إلى سيد الجلادين على هذه الأرض ، طامعا أن يكون ماضيه المشرق غطاء لحاضره القذر ، ناسيا أن ذاكرة الشعوب قصيرة المدى و أن إرادتها لا تعرف المزاح .
أكمل آخر جرعة من القارورة ، لازال يقف عاريا وسط الغرفة ينظر إلى وجهه الشاحب في المرآة ، عليه أن يعيد لنفسه الاعتبار مادام كل هذا الجاه لم يستطع أن يعطه القليل من الاحترام ، الى الجحيم بما تبقى من الحياة ، رفع القارورة و هوى بها على المرآة ، سمع الدّوي في كامل الممر ، تراكض الجميع الى الغرفة لكنها كانت مغلقة من الداخل . قاموا باستدعاء الحراس الذين بدؤوا بخلع الباب ، الذي فتح على مصراعيه قبل أول ركلة . وجدوا الرئيس واقفا أمام المدخل مرتديا البذلة التي دخل بها أول مرّة القصر الرئاسي ، استدعى أحد مستشاريه ، قدم له ورقة استقالته ثم طلب منه أن يأمر باعداد سيّارة دون حراسة ، قالها وعلى وجهه علامات الراحة و نشوة لم يشعر بها منذ أن دخل هذا الدهليز الفخم : "الآن يمكنني العودة إلى البيت " .

تنويه : "أحداث هذه القصة خيالية ولا تمت للواقع بصلة وإن كان هناك أي تشابه بين الشخصيات وأي من الزبالة السياسية فقد حدث في حلم الكاتب ... لأنّ الساسة في وطننا لا يملكون ما يكفي من كرامة لتقديم الاستقالة. "
    
 صفوان الطرابلسي
ضد السلطة 27/12/2012

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire