dimanche 30 décembre 2012

آخر الرّؤساء المحترمين

دخل القصر مهتاجا ، مغتاظا ، تتبعه جمهرة من الحرّاس و المستشارين . رمى برنسه المبلل لأول خادم اعترضته عند الباب ، كمن يتخلص من لعنة أثقلته . الخادم المسكينة اصابها الذهول ، إذ لم تره على هذه الحالة قط ، و قد ازدادت ذهولا عندما اشتمت رائحة عفونة . خامرها الشك ، فحصت ملابسها لكنها سرعان ما اكتشفت أنها رائحة بقايا الطماطم المختمرة التي التصقت ببرنس الرئيس و سترات الحرّاس الذين توجهوا لتنظيف بدلاتهم ما إن أنهوا تأمين الموكب . كبتت ابتسامتها و انسحبت بسرعة قبل ان تنفجر ضاحكة في غرفة الغسيل و هي تروي لصديقاتها الحادثة محاولة تقليد الرئيس و هو يرعد و يزبد و يطوح برأسه و يديه في الهواء في حركات متشنجة و قد صار وجهه الأسمر أقرب إلى الزرقة من شدة الحنق ، كانت قد نفشت شعرها و أخذ اللعاب يتطاير من فمها في محاكاة ساخرة للمشهد بينما زميلاتها يجتهدن في كبت ضحكاتهنّ حتى لا تسمعهنّ المشرفة . 
صرف الرئيس مستشاريه بصرخة دوّى لها البهو و تردد صداها في أرجاء القصر ، حتى أن الخادم التي كادت تغفو على المكنسة الكهربائيّة و هي تنظّف غرفة نومه ، انتفضت في مكانها مرتعدة و سارعت بالخروج عندما أحسّت بخطواته تقترب . دخل يحاور نفسه بكلمات غير مفهومة ، أخذ قارورة النبيذ من خزانة صغيرة ، فتحها بصعوبة ، يداه ترتعشان بشدّة من فرط الغضب . استلقى على سريره برهة ، أغمض عينيه ، تنفّس بعمق ، حاول طرد هواجسه و تخفيف هياجه ، تناول جرعة من النبيذ ، سحب قارورة الدواء من جيبه و ابتلع حبّة مع جرعة ثانية . عندما أعطى المهدّئ مفعوله و أحس ببعض الراحة و الاسترخاء ، وقف قبالة المرآة كي يغير طقم ملابسه و مع كل قطعة ينتزعها كانت تهاجمه افكار غريبة ، افكار اجتهد طيلة سنتين في طردها من دماغه ، افكار قتلها في وجدانه منذ أن احترف السياسة .
وقف عاريا أمام المرآة ، لم يترك سوى سرواله الداخلي ، أحس و كأنّه ينزل عن كاهله ثقل الدنيا ، تناول جرعة كبيرة من النبيذ ، كان حارا و حارقا . نظر الى وجهه و كأنه يراه للمرّة الأولى ، لمن هذه السحنة يا ترى ، من صاحب هذه الصورة المعلّقة ؟
راجع كل شريط الرحلة و هذا الاحتفال المشؤوم . تذكر نزوله من السيّارة ، ابتسامات النفاق المرسومة على وجوه المسؤولين الجهويين ، عباراتهم المتملّقة ، قلقه إزاء الهتافات الغاضبة خارج الولاية و تطمينات مستشاريه المتواطئة.
تذكر خطواته و هو يصعد درج المنصّة ، تلك المعلقات التي كتب عليها شعار المهرجان ، ابتسم ابتسامة ساخرة و هو يتذكر هذا القدر من الابتذال لكنه سرعان ما انكمش حين مرّت أمامه فجأة صورة الجماهير الغاضبة ، أرعبه الرفض الذي استقبل به و الحقد الدفين الذي طالعه في نظرات عيونهم ، أحزنه الأسى الذي رسم على تقاسيم  وجوههم المرهقة و بريق الصمود الذي تجسّد في صيحاتهم الحانقة . كم يحتقر نفسه الآن حين يتذكر الكلمات المرتجلة و هو يحاول أن يهدّئ جماهيرا أدماها الفقر، بوعود يعرف مسبقا أنها مزيفة وواهية كعرشه الذي يجلس عليه . يكذب و يعرف أن من يستمع إليه يعرف أنه يكذب و لكنه رغم ذلك يتمادى بوقاحة خنزير بري ، ضاربا عرض الحائط مبادئه و كرامة شعبه .
الآن بات متيقّنا من الأسباب التي جعلته يخسر في سنة احترام الجميع ، اذا كان هو لم يعد يحترم نفسه ، يتصرّف و كأنه شخص آخر . ما الذي كان ينتظره من هؤلاء المساكين الذين أضناهم الجوع  و فتكت بشبابهم البطالة . أكان ينتظر أن يستقبلونه بالورود ويرشقونه بالحلوى وهو يزورهم حاملا حقيبة  من الأكاذيب في عيد ثورة كانوا هم حطبها و رأس حربتها ، ثورة كانت آخر آمالهم و هو أول راكب عليها و أول من ساهم في بناء ضريحها و شاهد الزّور الأساسي على اغتصابها في العلن . ما الذي كان ينتظره غير رشقه بالحجارة و بقايا الخضار الفاسدة ، رئيس الحكومة كان أكثر واقعية منه ، درس الوضع جيّدا و عرف متى يصاب بالزّكام ، أما هو فقد أعماه غروره و صدق الكذبة التي اخترعها.
ما آلمه حقا ، لم يكن الحادث في حد ذاته ، بل أن عمليّة الطرد كانت تتكرر كلّما زار تلك الجهات المحرومة و هو رغم ذلك يعمي بصيرته و يتهم يمينا و شمالا حتى ينسي و ينسى الحادثة و يعود الى حياته المعهودة و كأن شيئا لم يكن . لم يفكر في يوم من الأيام ، أن تلك الوجوه المغتاظة التي كانت تستقبله بشعارات التنديد هي نفسها التي استقبلته ذات يوم بابتسامات الأمل حين كان طبيبا يقود حملات العلاج التطوّعيّة في المناطق الداخليّة . ما آلمه حقا ، أنه تحول من طبيب يداوي ما تخلفه سياط الجلاد ، إلى سيد الجلادين على هذه الأرض ، طامعا أن يكون ماضيه المشرق غطاء لحاضره القذر ، ناسيا أن ذاكرة الشعوب قصيرة المدى و أن إرادتها لا تعرف المزاح .
أكمل آخر جرعة من القارورة ، لازال يقف عاريا وسط الغرفة ينظر إلى وجهه الشاحب في المرآة ، عليه أن يعيد لنفسه الاعتبار مادام كل هذا الجاه لم يستطع أن يعطه القليل من الاحترام ، الى الجحيم بما تبقى من الحياة ، رفع القارورة و هوى بها على المرآة ، سمع الدّوي في كامل الممر ، تراكض الجميع الى الغرفة لكنها كانت مغلقة من الداخل . قاموا باستدعاء الحراس الذين بدؤوا بخلع الباب ، الذي فتح على مصراعيه قبل أول ركلة . وجدوا الرئيس واقفا أمام المدخل مرتديا البذلة التي دخل بها أول مرّة القصر الرئاسي ، استدعى أحد مستشاريه ، قدم له ورقة استقالته ثم طلب منه أن يأمر باعداد سيّارة دون حراسة ، قالها وعلى وجهه علامات الراحة و نشوة لم يشعر بها منذ أن دخل هذا الدهليز الفخم : "الآن يمكنني العودة إلى البيت " .

تنويه : "أحداث هذه القصة خيالية ولا تمت للواقع بصلة وإن كان هناك أي تشابه بين الشخصيات وأي من الزبالة السياسية فقد حدث في حلم الكاتب ... لأنّ الساسة في وطننا لا يملكون ما يكفي من كرامة لتقديم الاستقالة. "
    
 صفوان الطرابلسي
ضد السلطة 27/12/2012

samedi 29 décembre 2012

تصاور مالحيط 2

وسيم الطرابلسي 

معرض تصاور مالحيط 
الدفعة الثانية 














Trabelsi Wassim 

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

vendredi 28 décembre 2012

تغيّر الأحزاب و سياسة الإرهاب

" إذا اردت السيطرة على الناس ، أخبرهم أنهم معرضون للخطر و حذّرهم من أنّهم تحت التهديد ثم شكك في وطنيّة معارضيك "
ليس من الغريب أن تنسب هذه القولة لأدولف هتلر الزعيم النازي و ليس من الغريب أن تسير الدكتاتوريّات البائدة على هذا المنوال تحت رعاية الإمبرياليّة العالميّة مستغلّة ما توفّره هذه الأخيرة من امكانيّات هائلة في مجال الدمغجة الجماعيّة و البروبقندا السياسيّة . لتنتشر لنا الفزّاعات في كل زاوية و على رأسها صورة الإرهابي الإسلامي ذو اللحية الطويلة و العيون الحقودة ، حاملا سيفه الملطّخ بدماء الأبرياء .
 بقيت هذه الصّورة أكثر كوابيسنا رعبا إلى أن هلّت علينا الثورة بريحها و خرج النّاس إلى الشوارع واقفين جنبا إلى جنب رغم كل الخلافات . اكتشفنا بمحض الصدفة أن هذا الغول لا وجود له سوى في خيالاتنا المنوّمة أو هي بالأساس صورة مصطنعة يحركها النظام كلّما أحس  بالخطر حتى يضفي بعض الشرعيّة على القمع . المهم أنه مع سقوط بن علي تحرر الجميع و على رأسهم الإسلاميون و قد كانت الفترة الأولى ما قبل الانتخابات فرصة لنعيد اكتشافهم من جديد و نستنتج أنّهم أناس عاديون ، ليسوا شياطينا كما صورهم النظام و لا هم ملائكة رحمة كما يريد تصويرهم البعض الآخر . شاركوا في الإنتخابات كباقي القوى طبقا لقواعد اللعبة السياسية التونسيّة ، بكل ما فيها من قذارة خلّفتها الأزمنة الغابرة. استغلوا هامش الحرّية ، الإمكانيّات المادية المهولة ، ضعف المنظومة القانونيّة و جهل التونسيين "بالتكمبيسات" السياسيّة ليفوزوا بانتخابات شبه ديمقراطيّة .
 الى هذا الحد كان المنطق سيّد الأحداث و لم يكن فوزهم مفاجأة : تعاطف الناس ، العقد التي خلفها بن علي من خلال قمعهم و لعبهم على وتر الدين و الهويّة  بالإضافة إلى قدرتهم على التأقلم مع لعبة السياسية القذرة في ضل الدعم المالي الرهيب الذي حضوا به من عديد الدوائر الداخليّة و الخارجيّة التي راهنت عليهم  ، كل هذا مكنهم من الوصول إلى السلطة بسلاسة و دون منافسة تذكر خصوصا في ضل تشتت المنافسين من القوى اليساريّة و الديمقراطيّة بصفة عامة .
الآن مرّت أكثر من سنة على هذه الانتخابات لنجد أنفسنا مصدومين  بواقع لم يتغير منه شيء و للأسف لا نرى بوادر تغيير في الأفق . سياسة الرعب والتخوين  لازالت حجر الاساس في سياسة الحكّام الجدد . و بشكل مبتذل نجد أنفسنا أما نفس الصورة الكلاسيكيّة لخطر الإرهاب الإسلامي و لكن بعناوين جديدة وهي الخطر السلفي و رابطات حماية الثورة أو رابطات حماية النهضة في رواية أخرى . سياسة التخوين و التشويه للمنافسين مازالت متواصلة و تستهدف نفس الوجوه منذ زمن برقيبة و بن علي ، و تلصق إليهم نفس التهم ، إذا لا شيء جديد ليذكر . نعرج على السياسة التنموية و التنظيم الاقتصادي ، سنجدهم يسيرون على نفس المنوال بل ويتبجحون بتدشين مشاريع كان قد تم إقرارها و إنجازها منذ العهد البائد أما على المستوى الإداري و  طريقة التعامل مع أجهزة الدولة فهي نفسها  و هذا ما نرصده من خلال محاولات الهيمنة عليها مع تسجيل بعض الإرتباك نظرا لنقص الخبرة و الحرفيّة . بالتالي كل أهداف الثورة و كل مشاريع الإصلاح التي كان يطمح لها الشعب ركنت على الرّف تحت تعلّة صعوبة المرحلة الانتقالية و ابتداع المؤامرات الداخليّة منها و الخارجية حتى يبقى الحال على ما هو عليه و يتسنى للحكّام الجدد تثبيت أنفسه في الكرسي  .
يعني في الخلاصة ما قمنا به لا يتعدّى نزع" البيكيني" الأوروبي الذي كان يفضح عورة النظام السابق  المشوهة و سترها بجلباب افغاني أمركي الصنع و التصميم، قطري المساهمة و الترويج ، و في النهاية مالم يفعله التجمّع سيفعله غيره تتعدد الأسماء و السياسة واحدة .

مع تحيّات صفوان الطرابلسي 




jeudi 27 décembre 2012

تصاور مالحيط 1

وسيم الطرابلسي 

معرض تصاور مالحيط
دفعة أولى 




















Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim
Trabelsi Wassim


Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

Trabelsi Wassim

mardi 25 décembre 2012

ثلاثة أمنيات على بوابة السنة الجديدة




مرة أخرى على شباكنا تبكنا

ولا شيء سوى الريح
وحبات من الثلج.. على القلب
وحزن مثل أسواق العراق
مرة أخرى أمد القلب
بالقرب من النهر زقاق
مرة أخرى أحنى نصف أقدام الكوابيس.. بقلبي
وأضيء الشمع وحدي
وأوافيهم على بعد
وما عدنا رفاق
لم يعد يذكرني منذ اختلفنا احد غير الطريق
صار يكفي
فرح الأجراس يأتي من بعيد.. وصهيل الفتيات الشقر
يستنهض عزم الزمن المتعب
والريح من القمة تغتاب شموعي
رقعة الشباك كم تشبه جوعي
و (أثينا) كلها في الشارع الشتوي
ترسي شعرها للنعش الفضي.. والأشرطة الزرقاء..
واللذة
هل أخرج للشارع؟
من يعرفني؟
من تشتريني بقليل من زوايا عينيها؟
تعرف تنويني.. وشداتي.. وضمي.. وجموعي..
أي إلهي ان لي أمنية
ان يسقط القمع بداء القلب
والمنفى يعودون الى أوطانهم ثم رجوعي
لم يعد يذكرني منذ اختلفنا غير قلبي.. والطريق
صار يكفي
كل شيء طعمه.. طعم الفراق
حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس
قد تم الطلاق
حينما ترتفع القامات لحناً أممياً
ثم لا يأتي العراق
كان قلبي يضطرب.. كنت أبكي
كنت أستفهم عن لون عريف الحفل
عمن وجه الدعوة
عمن وضع اللحن
ومن قاد
ومن أنشد
أستفهم حتى عن مذاق الحاضرين
يا إلهي ان لي أمنية ثالثة
ان يرجع اللحن عراقياً
وان كان حزين
ولقد شط المذاق
لم يعد يذكرني منذ اختلفنا أحد في الحفل
غير الإحتراق
كان حفلاً أممياً إنما قد دعي النفط
ولم يدع العراق
يا إلهي رغبة أخرى إذا وافقت
ان تغفر لي بعدي أمي
والشجيرات التي لم أسقها منذ سنين
وثيابي فلقد غيرتها أمس.. بثوب دون أزرار حزين
صارت الأزرار تخفى.. ولذا حذرت منها العاشقين
لا يقاس الحزن بالأزرار.. بل بالكشف
في حساب الخائفين

في حضرة الغياب

مقاطع من كتاب «في حضرة الغياب» لمحمود درويش

عشت، لأن يداً إلهية حملتك من عين العاصفة إلى واد غير ذي زرع. وعشت في منزلة الصفر، أو أقل وأكثر. عشت عصيّ القلب، قصيّ الالتفات إلى ما يوجع ويجعل الوجع جهة، وإلى ما يرجع من صدى أجراس تضع المكان على أهبة السفر: من هنا مرّت الغجريات المصابات بحمّى الرقص والإغواء. علّقن سراويلهن على أغصان الشجر وارتدين العري المتخفّي في رشاقة الحركة. على الخيال وحده أن يرى فضيحة العُري في إيمان الفن بذاته المتمنعة عن الإفصاح. فالغجريات الماهرات بدسّ البرق في عظام المشاهدين، هنّ هنّ القادرات على ستر العري بضوء يسطع من نهود ترشح حبيبات ماء يضح.
في كل ولد غجرية. وفي كل غجرية سفر مرتجل. وفي كل سفر حكاية ولا تُروى إلاّ بعد اجتياز الذكرى سنّ الخجل من أصحابها. ألهذا حملت الغجر معك كلما افترق المكان عن زمانه، وكلما تشرّد المكان في سُكّانه الباحثين عنه في ما تبقى من روائح هي الدليل على حسّية الروح؟ ألهذا بحثت في النساء الغريبات عن فوضى الجسد في شهوة الغجريات الراقصات على حبال الريح، واصطحبت المعنى الخالي من الزركشة، في الحب، إلى آخر العبث؟
وعشت، لأن يداً إلهية أنقذتك من حادثة. عشت في كل مكان كمسافر في قاعة انتظار في مطار يُرسلك، كبريد جوّي، إلى مطار... عابراً عابراً بين اختلاط الهُنا بالهناك، وزائراً متحرراً من واجبات التأكد من أي شيء. هكذا مرّت الغجريات على حقل أيامك البعيدة، في طريقهن الشريد من الهند إلى ما يرد على حاسة التيه من هواجس بلا خرائط وهويات... جميلات وبائسات وراقصات بلا سبب، سوى ما للدم الساخن من نسب إلى الإيقاع. هُنّ هُنّ، سرب خيام مهاجرة إلى مغامرة قد يجدن فيها كفاف حياة في متناول اليد. ولا يودّعن شيئاً لئلا يحزن، فالحزن مهنة لا تليق بهنّ، فهنّ الحزينات منذ وُلِدن. ويرقصن كي لا يمُتن. ويتركن الأمس وراءهن حفنة من رماد موقد موقت. ولا يفكرن بالغد لئلا يعكّر التوقع صفو الارتجال. اليوم اليوم هو الزمن كله. فاحذر طريق الغجريات، لأنه لا يوصل إلى أي هدف.
وعشت، لأن كثيراً من الرصاص الطائش مرّ من بين ذراعيك ورجليك ولم يصبك في قلبك، كما لم يَشُجّ حجر طائش رأسك. وعشت لأن سائق الشاحنة انتبه في اللحظة الأخيرة إلى ولد يصرخ بين مؤخرة الشاحنة وبين الجدار الذي تلتصق به. وعشت، لأن سائق سيارة رأى في الظلام قميصاً أبيض واقفاً على حافة الشارع، فأنقدك من خطر الليل وأعادك إلى الأهل المشغولين بتقليب الافتراضات على جمر الخوف. وعشت، لأن ضوء القمر اخترق الماء وأضاء صخوراً مدببة أقنعتك بأن الموت سيكون مؤلماً لو قفزت من تلك الصخرة إلى البحر، لا سباحة في مياه الأبدية.
وعشت، من دون أن تعرف كيف تصوغ كلمات الشكر البسيطة: حمداً للحياة حمداً. ولم تسأل إلاّ متأخراً: كم مرة متّ ولم أنتبه؟ وكلما متّ وانتبهت التهمت الحياة كحبة خوخ، فلا وقت طويلاً للخوف من المجهول ما دامت الحياة، وهي أنثى، مشغولة عن الموتى بتجديد صباها وفجورها وتقواها، على مرأى من المحرومين.
تجلس في مطعم المطار في ركن قصيّ، وتفكّر في جدوى الرحلة: هل أنا في ذهاب أم إياب. لا أحد ينتظر في الذهاب ولا سبب يدعوني إلى الإياب. لي أكثر من اسم وأكثر من تاريخ ميلاد في جوازات سفر جليلة الأغلفة، حمراء وزرقاء وخضراء. وحرٌّ أنا في هذا الزحام المسافر، وآمن كبضائع الحوانيت المعفاة من الجمارك، ومحروس بأجهزة الإنذار الإلكترونية. لا أحد يسألني من أنت ولا أحد يلتفت إلى مشيتي المتلعثمة، وإلى الزر المقطوع في معطفي، وإلى بقعة الزيت على قميصي. كأني شخص هارب من إحدى الروايات المعروضة في كشك الصحف، هارب من المؤلف والقارئ والبائع. وفي وسعي أن أضيف وأن أحذف وأن أعدّل وأن أبدّل وأن أقتُل وأن أُقتَل وأن أمشي وأن أجلس وأن أطير وأن أصير ما أريد وأن أحبّ وأن أكره وأن أعلو وأن أهبط وأن أسقط من أعالي الجبال ولا أصاب بسوء لأني لا أعتدي على حقوق المؤلف، ولي في المصائر، أعني مصائري، وجهة نظر أخرى.
لم ينهك أحدٌ في المطار عن الإفراط في الخروج من انضباط المؤلف، فاسترسلت في طرق المعلوم على فولاذ المجهول، فتطاير شَرَرُ الممكن من خيال كلما ضاقت عليه الجدران شعّ كبلّور مكسور في مجاز السجين. فرأيت إلى نفسك في المطار التالي شخصاً غير مرغوب فيه، لافتقار الوثائق إلى فقه الربط بين الجغرافيا وأسمائها: فمن وُلِدَ في بلد لا يوجد.. لا يوجد هو أيضاً. وإن قلت مجازاً إنك من لا مكان قيل لك: لا مكان للامكان هناك. وإن قلت له، لموظف الجوازات، اللامكان هو المنفى، أجابك: لا وقت لدينا للبلاغة؛ فاذهب إذا كنت تحبّ البلاغة إلى لا مكان آخر.
ورأيت إلى نفسك في مطار ثالث ورابع وعاشر تشرح لموظفين لا مبالين درساً في التاريخ المعاصر عن شعب النكبة الموزع بين المنافي والاحتلال، من دون أن يفهموك وأن يمنحوك إذناً بالدخول. ورأيت إلى نفسك في شريط سينمائي طويل تروي على رسلك ما حلّ بأهلك مسروقي اللسان، والقمح والبيت والبرهان... منذ هبطت عليهم جرّافة التاريخ العملاقة وجرفتهم من مكانهم وسوّت المكان على مقاس أسطورة مدجّجة بالسلاح وبالمقدّس. من لم يكن آنئذ في الأسطورة لن يكون الآن. وتساءلت: هل من جلاّد مقدس؟ ورأيت إلى نفسك تكمل ما تيسّر لك من عمرك، بلا مؤرخين ومؤلفين في المطار المزدحم بالمسرعين إلى مواعيدهم التجارية والغرامية.
وأنت المُفرَغ من لقاء أو وداع، تجلس على المقعد الجلدي وتنام. وتستيقظ لأن مسافراً مستعجلاً تعثّر بك واعتذر من دون أن ينظر إليك. تمضي إلى الحمّام وتغسل ثيابك الداخلية وجوربيك وتحلق ذقنك، ثم تتوجه إلى الكافيتيريا لتحتسي فنجان قهوة، وتبحث في الصحف عن آخر أخبارك: هل من بلد يقبل بي؟ فلا تجد فيها، في الصحف، إلاّ أخباراً مُفَصّلة عن الحروب والزلازل والفيضانات. لعل الله غاضب على مايفعل البشر بالأرض! لعل الأرض حبلى بالقيامة!
ما معنى أن يحيا إنسان في المطار؟ تهجس: لو كنت مكاني لكتبت مديحاً لحريتي في المطار: أنا والذبابة حُرّان/ أُختي الذبابة تحنو عليّ/ تحطّ على كتفي ويدي/ وتُذكّرني بالكتابة/ ثم تطير. وأكتب سطراً:
كأن المطار بلاد لمن لا بلاد له/ وتعود الذبابة بعد قليل/ وتمحو الرتابة، ثم تطير تطير تطير/ ولا أستطيع الحديث إلى أحد/ أين أختي الذبابة، أين أنا؟
ترى إلى نفسك في شريط سينمائي تحدق إلى امرأة تجلس في الركن المقابل لك في الكافتيريا. وحين تراك وأنت تراها تتشاغل بتنظيف قميصك من قطرة نبيذ، وقعت ككلمة شاردة من عبارة كنت ستقولها لها لو كانت معك: جمالك هذا كثير عليّ كسماء، فارفعي السماء قليلاً لأتمكن من الكلام. ترفع عينيك عن صحن الحساء الساخن، فتراها تراك، لكنها سرعان ما تتشاغل برش الملح على طعمها بيد يرتجف عليها الضوء، فتخاطبها في سرك: لو كنت مثلي ممنوعة من الخروج، لو كنت مثلي! تشعر بأنك أحرجتها، فتتظاهر بأنك تخاطب النادل: لا، عفواً. لؤلؤة من عرق تلمع في جيدها المرفوع للثناء، فتقول لها في سرك: لو كنت معك للحست حبة العرق. الرغبة ماثلة واضحة كالصحن، كالشوكة والملعقة والسكين، كزجاجة الماء، كالشرشف، وكأرجل الطاولة. والهواء معطر. تلتقي النظرتان وتشعران بالحرج فتفترقان. هي تحتسي جرعة من كأس النبيذ الذي ذابت فيه اللؤلؤة. وأنت تشعر بأنها قد سمعت بكاء الحوت في محيط عميق، وإلا، فما الذي يغرقها في هذا الصمت الكثيف؟ تقول لها في سرك: إن أعلنوا أن قنبلة ستنفجر في المطار، فلا تصدقي... لأني أنا من أطلق هذه الشائعة لاقترب منك وأقول لك إني، لا غيري، من أطلق هذه الشائعة. يخيل لك أنها اطمأنت، فرفعت نخبك متلألئاً، وانسل خيط من الرغبة من أطراف أناملها، وحرك في عمودك الفقري نبضة كهربائية، وهزتك قشعريرة... فتولهت وتأوهت، وفاحت رائحة المنجو من سرير سري معلق في الهواء، وناحت كمنجات بعيدات وارتخت أوتارها في نهاية الهياج.
لم تنظر اليها، لأنك تعلم أنها تنظر اليك ولا تراك، فقد حلك الضباب على طاولتك الدائخة من فرط ما كدست عليها من أدوات التأويل، ومن أوراق بيضاء لا يكفي عشرون مؤلفاً لإشباعها بالكنايات. لم يكن النادل، بل هي من ربتت على إغمائك، وقالت: هل كانت وجبتك شهية؟ وأنت ـ سألتها، فقالت: سعدت بلقائك... هل تذكرتني؟ قلت: قد يفقد المرء ذاكرته في المطارات. فقالت: وداعاً لم تنظر اليها وهي تبتعد، لأنك لا تريد أن ترى الرغبة وهي تدق بكعبين عاليين رخام الكاتدرائيات، وتوقظ في أجساد الكمنجات شبقاً إلى الرحيل. لكنك تذكرتها حين تسلل النعاس، كما تسلل خدر النبيذ إلى جسدك، بدءاً من الركبتين إلى ما لا تتذكر من غابة الجسد. أما اسمها، فقد تعرفه غداً، على طاولة أخرى في مطار آخر
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3216 - الثلثاء 28 يونيو 2011م الموافق 26 رجب 1432هـ

lundi 24 décembre 2012

الشاعر و الشيخ المنتفخ





لم يكن من طباع أبي الانفعال المفاجئ ، و لكنه لم يستطع أن يتمالك نفسه حين سمع الخبر ، رمى الحاسوب بشكل مفاجئ على الأريكة و سحب سيجارة من علبتي التي كانت في معطفي المسدل إلى جانبه . جميع من في الغرفة استغرب ذلك ، إذ كان قد هجر التدخين منذ زمن ، جذب الدخان بعنف و زفر زفرة طويلة و قاسية ، نظر إليّ نظرة  حرّكت داخلي الشك ، ثم أشاح  بوجهه ليداري دمعة قبل نزولها .

حملت الحاسوب ، قرأت الخبر باحتراز ، " الحكم على الشاعر القطري محمد العجمي بالسجن المؤبد ..." ، قد لا يعني هذا للكثيرين شيئا و لكنه لوالدي قد يعني توقف الزمن . كنت أعرف حبه للشعر و حلم شبابه بأن يكون شاعرا . كان يعتبر أن الشعر صرخة الروح لتفجير الألم المكبوت داخلها ، كان الشاعر في قاموسه  ضمير الأمة حين تموت داخلنا الضّمائر.
نظر إليّ بحزن بالغ لم أره في عينيه منذ زمن ، منذ إعدام صدّام يوم عيد الاضحى على ما أذكر ، ربّت على كتفي ثم خرجت الكلمات ثقيلة من فمه : " لا ترخي العنان لقلمك ، ها قد بدؤوا باصطياد ضمائرنا ، و شعب بدون شعر شعب مهزوم كما تعلم ، هذه الأرض يا بني أرض الشعراء ، لقحت بالكلمات منذ الأزل ، هذه الأرض بكاها درويش علنا ذات مساء  و تساءل كيف يشفى من حبها ، هذه الأرض أتاها نزار عاشقا من دمشق و تعلّم بين يديها أصول العشق  ، هذه الأرض سيعيش لأجلها محمد ما تبقى من سنينه في سرداب ، ويذوق صنوف العذاب . و ان حبسوا ابن الذئب ، فالذئب نفس لا يزال خارج القضبان   و سنتحوّل جميعا  إلى  ذئاب ، ننهش من  لحم مغتصبه و مغتصبنا ، نشرب من دمه و نغسّله به ، عار علينا إن لم ننتقم و تركنا ثأرنا يضيع كالسراب  . علينا أن نذكر دائما أن هذا النبي  رفع قهره  قائلا "كلنا تونس"  فهل تعي يا بني ماذا تعني هذه الكلمات ، لقد تبرّأ من ملوك الجهل هؤلاء و نسب نفسه إلينا طامعا في نور ثورتنا  فحاذر أن يخيب أمل الشعراء إذ تصيبنا بعد الخيبة لعنتهم  و تذكّر أن شعبا دون شعر شعب مهزوم ."
ألقى عليّ تلك الكلمات بتأثير مسرحي كان يرتجله في تلك الحالات الصعبة ، أنا أيضا اختطفت دمعة قبل نزولها ، تذكرت صورة لشاب إسباني أو يوناني ، كان يرفع علم تونس أمام البرلمان وسط حشود غاضبة تهتف من أجل التحرر و من الحق في حياة سعيدة ، ثم كيف انطلق البوليس في تفريق المظاهرة بوحشية مرعبة . كان المصور قد التقط عدت صور للشاب و هو تحت أقدام البوليس ، يرفسونه و يضربونه لكنه رغم ذلك بقي متشبثا بالعلم كمن يتشبث بآخر رمق في الحياة .
كل هذا جعلني أشعر بالخجل و بالتقصير ، الكثيرون استلهموا و لازالوا يستلهمون من ثورتنا زادهم للنضال ، بينما نحن نقف قوّادين أما غرفتها ، نستقبل كل زناة الليل و نتاجر بشرفها علنا ، لا نقدر حجم المسؤولية التي على أكتافنا ، لا نقدر حجم الأمل الذي بعثناه للعالم حين كسرنا النبوءة التي جزمت بأن الثورة الإيرانية هي آخر الثورات و توجنا هذا القرن بثورة وقف لجلالها  كل أحرار العالم . لذلك حين تنتمي لهذه الأرض التي لقحها الشعر ، تذكر أن كل قضايا المظلومين في العالم قضيّتك ، تذكر أنك لا تحيا لنفسك فخلفك أحلام آلف البشر ، تذكر أنك حين تحرر نفسك تحرر من خلالك العالم بأسره و أنه ليس لك الحق أن تتوقف في منتصف الطريق. 


صفوان الطرابلسي
ضد السلطة 22/12/2012