•اليوم
يعود الجميع إلى صفوف المدارس. أسألكم في خجل، لأنني أحدكم، ما الذي تعلمتموه في
تلك الغرف المغلقة؟ القليل من تقنيّات التعامل مع الكلمات
و الأرقام ، بعض العلوم
البدائيّة، مبادأ الاخلاق الاجتماعيّة. جعلوا مني و منكم علبا سوداء محشوّة
بالترّهات. قد يعتبرني بعضكم جاهلا يمقت العلم، بذيئا، سوقيّ التكوين و لكن ما نفع
كل هذا ما لم نكتسب حب الحياة، ما لم نرسم هدفا، ما لم نخرج إلى النور الإنسان
المدفون داخلنا. هذه الجدران التي نسمّيها المدارس ليست سوى مقابر للإنسان، كما
كانت المعابد مقابر الآلهة، ندفن فيها جوهرنا و نطفئ شعلة الجنون اليانعة داخلنا و
نتفرّغ بعد ذلك لتدمير الأرض و الإستمناء على وجوه بعضنا البعض.
أريد أن أعلمكم دون حزن، نحن ننقرض. غدا سأعود
مثلكم، سأرتدي قميصا محترما تماشيا مع الموضة و أسرّح شعري احتراما للذوق العام.
سأتظاهر بأنني أنا و أنني موجود هنا رغم يقين بأنه لا شيء يشبهني و كما يقول درويش
لا شيء يعجبني، لا هذا الكلام كلامي و لا هذا الوجه وجهي، كلّنا نرتدي نفس القناع
و نتظاهر بالفرديّة المطلقة. لا تسألوني كثيرا، حينما تشاهدون هذا المبغى الكبير، الذي
يسمّونه الجامعة ستفهمون كيف تحوّل شعب عمره ثلاثة آلاف سنة و أكثر الى قطيع من
الغنم. ستعرفون كيف يعاد انتاج الصنم. تبدأ القصّة حين نولد في الفقر ، تحته بقليل
أو فوقه بقليل ، ليس هنالك فرق كبير، نعيش السلام الى حدود اليوم الذي نربط فيه
أول حرفين لتكوين كلمة و مع أول سؤال تنطلق المعركة، يبدؤون في حصارك و لحمايتك من
الخطيئة يرتكبون أكبر الخطايا، يعدمون عقلك تدريجيا كي لا تسقط في الهرطقات،
يكبتون روحك كي لا تنجرّ وراء الموبقات
و الشهوات. يلقنونك عرف القطيع. إيّاك أن
تكون مختلفا بينهم، إيّاك أن ترى أشياء لا يرونها، إيّاك أن تبحث عن شيء فهم
سيعلمونك كل شيء. تقنيّوا المعرفة هؤلاء، سماسرة الثقافة، أسايد الحكمة في هذا
العالم المبتذل، إختصاصيوّ التعذيب الناعم و القمع المقنّع برداء الفضيلة.
سيصعّدون كل عقدهم على جلدك، سيدبغون شخصيّتك الفتيّة ببولهم الحامض و دمهم الفاسد.
سيلقنونك درسا في القناعة، جاهر بما تريد لكن في الجوهر كن محافظا أو لا تكون،
التغيير بداية الخراب و عين الجنون لهذا عليك أن تكتفي بما يسردونه في الكتب
المدرسيّة، سيقرؤون لك التاريخ بالمقلوب، سيقولون أن شكري كان كافرا لذلك لا ينعت
بالشهيد و أن جيفارى كان إرهابيا
و مارقا يريد تحرير العبيد. سيعلمونك كيف تكره
النوّاب لأنه كان بذيئا و فوضويا و كيف تمقت غسّان لأنّه كان شيوعيا. يختنق الدماغ
و تدخل دوّامة الغباء، لن تستطيع فهم شعر الماغوط رغم بساطته، لن تفتح شفرات
الغموض في شعر درويش، مع ذلك ستحفض بعض الأسطر للمباهات. لن تجد الحب و لن تعرف
الرّب يوما، مع ذلك ستتزوّج و تنجب أطفالا و تواضب على آداء الصّلاة و فرائض
العبادة.
ستندم يوما
ما و ستحقد حين يمر أما عينيك صدفة، في لحظة رعب أبديّة، شريط حياتك التعيسة. تدرك
أنك عرفت كل شيء عن الحياة إلا كيف تعيشها. تدرك أنك مجرّد رقم في حساب بنكي كبير.
لن تستطيع أن تلوم أحدا لأنك مذنب مثلهم و لأنهم مثلك ضحية هذا المجتمع ، ضحيّة
هذا الجبن المتوارث و هذا الضعف الأزلي أمام الحقيقة ، أمام الحياة ، أمام الله و
الأرض. ستدرك بعد فوات الأوان أنك صرت مومياء مشوّهة، كائن خانع و طيب ترتدي أجنحة
الملاك و تسير على خطى الشيطان.
صفوان الطرابلسي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire