jeudi 25 avril 2013

الشعب صابر ... سيّب صابر / 2

الثامنة صباحا ، شارع باب بنات يعج بخلق الله المتعبين ، المقاهي قبالة المحكمة كخلايا النّحل في ذروة عملها المحموم ، محامون ، مدّعون ، مواطنون عاديّون ، المذنبون منهم و المظلومون ، يدخلون و يخرجون في هرج و مرج أبديّين لا يكتسب هذا الشارع روحه و لا إسمه دونهما . على الرّصيف الأمامي في الرّكن الأيسر قبالة الزّقاق الفرعي الذي يتم عبره إدخال المتهمين إلى المحكمة ، كانت عائلة صابر المرايحي و أولاد حومته ينتظرون  وصوله بفارغ الصّبر ، كل الأهالي  يرابطون قبالة هذا الزّقاق طامعين في رؤية أبناءهم و لو من خلال شبّاك سيّارة البوليس ، يبادلونهم نظرة عابرة و يشجّعونهم  ببعض الكلمات الضّائعة . سامية الأخت الكبرى لصابر كانت أكثر المجموعة نشاطا ،  يحدوها أمل حقيقي  في الإفرج عن أخيها اليوم ، كانت مشتاقة إلى أن يعود الصّفاء للبيت الصّغير و تعود الضّحكة لثغر أمها المجروحة ، كانت مشتاقة إلى رؤية الرّاحة و الطمأنينة تغزو محيّا والدها من جديد . اخذت تتنقل كالمجنونة بين عائلتها و بعض الأصدقاء المرابطين في المقهى المقابل ، الهاتف لم يتوقف على الرّنين منذ سويعات الفجر الأولى ، تردّ على المكالمات ، تتصل بالمحامين و تلقي التّصريحات  للوسائل الإعلامية القليلة التي اهتمّت بالقضيّة فمحاكمة صابر يتجلّى فيها البعد السياسيّ بامتياز ، مرآة ينعكس فيها الواقع التّعيس للثّورة التّونسيّة . صبار المرايحي مسجون منذ حوالي السّنة و النّصف بتهمة المشاركة في الثّورة ، وجهت له تهمة محاولة القتل العمد و إحراق سيّارة بعد أن أسقطت  عنه دائرة الإتّهام تهمة السّرقة . و ما هو معلوم ، أن المجني عليه أي  المتضرر في قضيّة الحال  عون أمن تم الإعتداء عليه إثر مروره  بحي مجاور لحومة صابر تزامنا مع وفات طفل صغير عمره لا يتجاوز أربعة عشر سنة برصاصة في الرّأس ، لكن الغريب في الأمر أن دائرة الإتّهام ثبتت التهمة على الشاب رغم إقرار الشهود بعدم تواجده في مكان الحادثة في ذلك الوقت بالإضافة إلى عدم وجود أي دليل مادي على الجريمة ، سوى أوصاف عامة ذكرها عون الأمن كارتداء قبّعة و نظّارة أو لون البشرة بالإضافة إلى شريط فيديو منشور على شبكة الفايسبوك بتاريخ  يوم آخر غير يوم الجريمة ، ظهر فيه صابر  المرايحي رفقة بعض الشّباب من أبناء الحي و هم يسبّون البوليس إبّان " أحداث ما يسمّى بالثورة " إذ هكذا كان يحلوا لهم دائما تسميتها في محاضر جلساتهم .
مرّ الوقت ثقيلا و حان موعد الجلسة ، توجّه الجميع إلى القاعة عدد ستّة . منع شرطي بعض الشباب من الدّخول بتعّلة  ارتدائهم قمصان كتب عليها " الحرّية لصابر المرايحي " ، حاولوا إيقاف شاب آخر كان قد ألصق على الحائط ببهو المحكمة أوراقا كتب عليها شعارات ساخرة تندد بالمحاكمة . لكن مع ذلك مرّت العمليّة بسلام و تمكّنت العائلة و بعض الأصدقاء من الدّخول رغم أن الجلسة في الأصل مغلقة . جلس الجميع في صمت قبل أن ينادى على الشّاب المتّهم ، وقف أمام القاضي ، ثابتا ، كان يعرف أن عين أمّه الدّامعة تراقبه بحنان خرافي ، كان يتخيّل أخته و هي تتخبّط في مكانها ، يحرق كبدها شوق ناريّ لكنّه مع ذلك تمالك أعصابه ، أخفى ضعفه و تشاؤمه و ترك للمحامي أن يتكلّم على لسانه معربا عن إستغرابه من غياب المجني عليه و مصرّا على براءة موكله طالبا من المحكمة قبول  إطلاق السّراح المشروط  مع  إلتزام صابر بالحضور كل ما تم  إستدعاؤه  .
رفع القاضي الجلسة ،إذ سيتم النّظر في مطلب السّراح خلال المداولة و إصدار القرار فيما بعد . خرج الجميع من القاعة تملؤهم شحنة من التّفاؤل ، القرار لن ينزل إلى الكتابة قبل الرّابعة ، عادوا الى البهو تبادلوا أطراف الحديث ، الأم و الخال مع المحامي يستفسرون عن مسار القضيّة و الشباب تجمعوا في ركن يحاولون الترويح عن أنفسهم ببعض الأحاديث الجانبيّة ، رغم أنّهم لا يعرفون بعضهم البعض الّا أن القضيّة خلقت بينهم رابطا معنويّا قويّا . فيما بعد  ذهبت الأم مع الخال الذي يقطن في حي قريب ، امّا سامية فقد انسحبت مع أصدقائها الى مقهى الشوّاشين بالمدينة العربي . كأس من الشاي السّاخن ، سيجارة و القليل من الفن العتيق قد يفي بالغرض و يخفف من حدّة التّرقب الموجع ، جلّهم منهكون لم يناموا منذ البارحة و عليهم الإنتظار حتّى العصر علّ القدر يحن و ينفحهم بخبر سعيد ينهي ولو مؤقتا هذه المعاناة .  
تمكّن الجميع من الصّمود الى هذا الحين ، عند الساعة الرّابعة نفذ الصّبر  عادوا إلى المحكمة ، جلسوا بالبهو كل يحاول قتل الوقت بما أتيح في يده من وسائل ، سامية تتسلّى بإطعام قطّة صغيرة ، شاب يغنّي و آخر يقرأ جريدة قديمة ، بينما أحرق الإنتظار أعصاب الأم فنهضت و دخلت الى مكتب الكتابة لتسأل عن القرار الصّادر في حق إبنها . طال مكوثها ، نزلت على المنتظرين غمامة تشاؤم ، بدأت الغمغمات و الهمهمات تتسربل بينهم كالوباء ، إلى أن صعقهم الخبر ، رفض الطّلب و تأجيل القضيّة الى يوم الرّابع و العشرين من ماي .
حاول الجميع تمالك أعصابهم و خصوصا الأم التي أحرجها أن تبكي أما أصدقاء إبنتها ، هي التي حرصت دائما على أن تظهر بصورة المرأة المقاومة ، اتصلت بالمحامي الذي شرح الوضع ، لقد رفض القاضي طلبهم نظرا لغياب المجني عليه و خطورة التّهم التي كالتها دائرة الإتّهام لصابر . وقد نوّه إلى أن هذا الغياب كان متعمّدا كي يطيل في أمد حبس الشاب علّهم يرضخون لمطالبه و يدخلون معه في مساومات  ، فبالنسبة لهؤلاء البشر القذرين ما يهم هو التعويض و أما حياة شاب في مقتبل العمر فتهون أمام حاجاتهم الماديّة أو طموحاتهم السياسيّة  . ما إن أنهت المكالمة حتى تنهّدت بصوت مسموع ، رفعت رأسها للسماء و دعت على الظّالم ثم استسلمت لبكاء صامت حارق . سامية أيضا كان تشتتها واضحا رغم ما عرف عنها من صمود ، تقاسم قلبها إحساس مهين بالضّعف و الغبن و حقد أسود يطالب بالثأر و يشعل النّار في كامل الجسد . تبادل الجميع النظرات و كلمات العزاء لكنّهم أجمعوا على أن الطريق مازال طويلا و قد تعهّد الجميع بمواصلة التّحرّك  ، صحيح أنّهم ليسوا كثرا – فقضيّة صابر لا تمثّل مادّة إعلاميّة دسمة أو فرصة سياسيّة تغري بالرّكوب عليها  كما أنّها قضيّة تتجاوز الحدود التي رسمها النظام للّعبة السياسيّة إذ  ستكشف خور المسار الثوري المبتذل الذي نعيشه - لكن مع ذلك هم ليسوا في حاجة لتعزيزات مناضلي الإحتفالات الفلكلوريّة ، سيصمدون بمفردهم ، أولاد الأحياء الشعبيّة كفيلون بالدّفاع عن القضيّة و بذل التّضحيات في سبيل إستكمال ثورتهم و صابر المرايحي يمثل اليوم رمزهم ، معاناته و معاناة عائلته دافع لهم حتى يكملوا المسيرة و صموده خلف القضبان يلهمهم العناد و يحرّضهم على المقاومة في الشوارع الخلفيّة و على الأرصفة المجهدة لهذه المدن المتخمة بالمال القذر و المثخنة بجراح الدّهر جرّاء الظلم و الإستغلال .

 صفوان الطرابلسي 
نشر بجريدة ضد السلطة
في 25/04/2013  

1 commentaire: