samedi 30 mars 2013

جنازة حب قديم

بين انتفاضات العواصف ، في ليالي الشتاء الهادئة ، تترسّب بقايا الطّين على الأرصفة المتعبة و تبكي عواصم الشّرق . في الأزقّة الخلفيّة للمدن المزدانة ببقايا العيد ، تتصاعد رائحة الجوع و يتقاسم الأهل دفأهم كما يتقاسمون الخبز كل ليلة ، راجين أن تمر السّهرة دون أن يكونوا بحكم العادة ضحايا القدر المشؤوم . تنطلق خفافيش الظّلام ، تصدح صيحاتها الحاقدة ، تمتص دماء راقصة غجريّة حتّى الثمالة و تطلق صرخات الإحتقار معلنة عن انطلاق الجنازة . دون بكاء ، دون كلام ، في كنف الصمت الحاقد ، يأتي المشيّعون قبل الأوان  يؤدّون الواجب عن مضض و يرحلون مسرعين . دون بكاء ، دون كلام يمرّون ، يقدّمون تعازيهم دون أن يختنق في قلوبهم الشّجن فهم لا يحزنون أو ربّما كانوا هم القتلة المأجورون ، يكتمون السر في قلوبهم ، لا يخجلون حين يقرؤون الفاتحة جهرا ، لا ترحّما و إنما تباركا بنفاذ المهمّة بنجاح ثم في سكات يمرّون و لا يسألون حتّى عن الرّاحل هذا المساء ، كل الوجوه في الأزقّة الخلفيّة للمدن العريقة الفاخرة  متشابهة . دون كلام ، دون بكاء يرحل كل الأتقياء المحترمون ، لا يبقى سوى المتسوّلون و من حرّضتهم شهواتهم و الظنون ، جاؤوا ينفثون في بطنها خطايا يومهم ففاجأهم الخبر . يغنّي السكارى لحنا للتأبين و يرقص روّاد الميناء القديم على شرف رحيلها رقصتهم المفضّلة ، أمّا الإمام العجوز فيقف أمام الضّريح ليقرأ الفاتحة ، يبحث عن رزق عياله في الدّعاء ، و يصطنع في آخر الصّورة نغمة البكاء ثم ينسحب في هدوء ، تاركا الإبن اليتيم غارقا في صمته يجتر أذيال الحنين،يتتبع الكلمات و الحركات،بلا مبالاة يقف متوحّدا مع الموت تاركا للوافدين أجر الصّلاة ...
أنا لا أكره الموت ، يبقى رغم كل شيء قدّيسا مبجّلا و هو خاتمة كل محارب . أنا لا أكرهه ، لكنني أحب الحياة أكثر  أو أحاول رغما عنّي أن أحبّها ، اسعى إليها كبدوي تائه في الصحراء يرى سراب الماء . و قد شاءت الصدف ، في حضرة هذا الموت الحقير ، أن أكون الشاهد الوحيد على عادة التعفّن البطيء فوق أرصفة الضّواحي ، كنت الوحيد الذي يبحث عن بقايا الحياة بين المقابر و كنتِ الوحيدة التي تنشدين نداء الحب بشغف المغامر ، تطلقين صرخة بطعم الشهوة المقدّسة ، تصرخين في وجوههم المكسوّة بالتقوة المزيّفة و تنادينهم للنزال ، كنتِ تطلبين المحال و ليس هناك غيري ليلبّي النداء ، نداء الفضيلة القصوى و الخطيئة الكبرى ، ليس هناك غيري ليلعب ورقته الأخيرة قبل الرّحيل و كنت بطبعي المغامر ، كنت أنا القتيل ...
تذكرين الحب ، تبحثين عنه داخل صدري ، ترسمينه وشما لا ينجلي ، تبحرين في ثنايا العشق تاركة لي مجال الإكتشاف . أجهّز خرائطي ، أرسو على قمّة النشوة الغامرة ، أرسم بين نهديك خطّا لسيري ، أنزل إلى منحدراتك النائية ، أطلب بين شفتيك الموت و ابحث بين ضفائرك عن سر الخلود فمنذ الموت الأوّل على صدرك تفتحت ذاتي و مات داخلها الجمود . أفجّر على أرصفة الشهوة سدّ الكتمان العظيم ، تتساوى الأضداد حين أكون بين يديك ، تنعدم الشراسة في الطقوس المتقلبة للطبيعة و تغازل النار الجليد في لحظة وجد موسمية لا أبصرها إلّا في عينيك المتعبتين . تنسكب  دمعة تتلألؤ على ايقاع الشهقات و استرسال النّزيف . أكتب آخر أمنياتي على خدّك بأنامل ترتجف لحظة انسحاب الخريف ، أمدّ يدي إلي الرّيح ، أحاول الصّعود مع أمواج جموحك إلى الجنّة الأبديّة في مقلتيك ، لكنني أسقط في منتصف الطريق فأنا لست ملاكا و لست نبيا ، لست رسولا أو من أولياء الله الصّالحين و لم اقف فوق قبرك يوما لأداء الصّلاة ، فقت أمر عابرا ، خائفا ، اقرء الفاتحة و أختفي ، طيفا خفيف الظّل كما عهدتني . قد يغفر الله خطيئتي يوما فالله يجزي من العباد الطيّبين لكن حرّاس النوايا الطّاهرين أبدا لا يغفرون و ذنبك كان أنكِ عشقتني كالأرض ، كالبحر و الصحراء و رفضت عند تطبيق حكمهم البكاء و الإمام في الجنازة ختم الدعاء ثم قدّم للحضور أجر الصلاة و انصرف ...
بقيت وحيدا ، كنت أحتك بذاتي من بعيد ، أرمق الطفل الوحيد بين ركام الصخور ، أرمق رقص العبيد خلف غيوم البخور ، يضحكون و يهللون لانتصاراتهم الواهية . أحمل الذّنب الثقيل و استعدّ للرّحيل. بلا كلام و بلا بكاء ، أحمل حقائبي المجهدة و مع ليالي هذا الشتاء أغادر محرقة الوطن ، أبحث عن حب يحرقني ، عن أنثى تقتل في جسدي كل الأوطان ، عن ثغر ، عن نهد يغرقني في الفسق ، ينسيني أيّام الحرمان . إنّي ابحث عن حب ينصفني ، عن امرأة تعرفني من اللحظة الأولى و قبل النظرة الأولى تضمّني إلى صدرها ، مثل إبنها ، أنام في سلام و كل صباح أعصر من نهديها الخمر و اشربه حتّى الإدمان . أغادر محرقة الوطن ، لا أترك شيء للذكرى فأنا قررت أن أنسى لتنساني جميع الأحزان ، ساترك روحي للقدر علّه يفهمني ، يهديني الحب درسا ، أدرسه على جسد امرأة أخرى ، غير المحجوزة في الوطن بين النيران ، غير المرميّة في الوكر خلف القضبان ، غير المهووسة بالسفر ، غير المتهومة بالعهر ، غير المدفونة في القبر أو بين حريم السلطان . ابحث عن هذا الوجد الضّائع في غفوات الليل ، اتوقّف عند ضياع القمر ألملم روحي ، أسرق احلاما للذكرى و أداوي على طرقات السفر جروحي ، يرهقني السير ، أتوقف في ساعات السهر و أحاول تعمير ربوعي ، يا سيّد هذا الليل كيف تراني أسكت جوعي ، يحملني السيل و الصمت المرعب في صدري يترصّدني و يطفئ في البرد شموعي ، يغتالني حزني و طريق في البحث طويل ، يا سيّد هذا الليل قد حان موعد هجرتنا فأنا كالطّير ، أبحث عن نفسي في الغربة لأني في وطني غريب ، سأموت بذنب أجهله و خطيئتي أنني صرت للعدم حبيبا و تركت في الوطن حبيب ...      

صفوان الطرابلسي 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire