حينما سألت عن فحوى الاستدعاء ، أخبروها أن الأمر هيّن ، بضع كلمات في ما
يخص قضيّة قديمة متعلّقة بحادث مرور . اتصلت بصابر على الفور و أعلمته بالموضوع و
ترجّته بأن يأتي مسرعا حتى يغلق الملف و يخفف من هلوسات أمه ، فشكّة إبرة في أحد
أبنائها كافية لتحرمها من النوم لليال . قرر الشاب النزول إلى العاصمة مسرعا و
العودة الى عمله بالدهماني في ذات اليوم ، كان على أبواب التّرسيم و ليس مستعدا
لتلقي أي ملاحظة من مرؤوسيه ، لقد جاهد و ذاق الأمرّين من أجل الحصول على هذه
الوظيفة . رافقته أخته ، دخل التحقيق و هو يظن أنه سيدلي بإفادته في بضع دقائق و
يغادر ، لكن الأمر طال و الأخت تنتظر خارج المكتب مستغربة قبل أن يرن هاتفها و
يعلمها أحد الأعوان أنه سيتم التحفّظ على صابر و من المستحسن أن يسرعوا للاتصال
بمحام . في البداية كانت تظنّها مزحة ثقيلة من مزاحات أخيها لكن النبرة الجديّة
للمتكلّم بددت شكوكها . كارثة بأتم معاني الكلمة ، كيف تمالكت نفسها في تلك
اللحظات ؟ كيف لكائن أن يتحمل مثل هذه الصدمة ؟ لقد كانت و لا زالت الى اليوم
امرأة عتيدة من نساء هذا الوطن ، لا أعرف كيف واتتها الجرأة لتخبر عائلتها
وتواسيهم و من أين تأتي اليوم بتلك القوّة الجبّارة في نضالها من أجل فك أسر
أخيها . ربّما هو ذلك الحقد الذي تولّد في صدرها عندما رأتهم يسحبونه مكبّلا الى
سيّارة الشرطة ، لقد حافظت عليه داخل قلبها و جعلته زادها لأنها تعرف جيّدا أن
الحقد سيّد المنتصرين .
"و
ضعوا على فمه السلاسل ، ربطوا يديه في صخرة الموتى و قالوا أنت قاتل " ،
أغلقوا في وجهه الزنزانة ، حرموه من لمسة أمه الحنون ، ضحكة أخته الصّاخبة ، حرموه
حتى من عتاب أبيه و قبلة مسروقة من خد حبيبة عابرة . تراه اليوم يجلس في ركن من
أركان الغرفة المظلمة ، يتقاسم مع الباقين ما تيسّر من هواء ، يدخن بشهيّة هوجاء و
يجتر الذكريات محاولا أن يصمد و أن لا يفقد الثقة ببراءته و حكمة الله ، محاولا أن
لا يفقد الثقة بعائلته و أصدقائه الذين يبذلون ما بوسعهم من أجل نصرة قضيّته . كان
كل ليلة يجلس وحيدا ، و حين تجتاحه الخيبة يناجي الظلام بكلمات ضائعة لدرويش
" تنسى كأنك لم تكن / تنسى كمصر طائر / ككنيسة مهجورة تنسى / كحب عابر / و
كوردة في الليل ... تنسى " ، في السابق كان يردد هذه الكلمات و هو يدخن
سيجارة في شرفة البيت يخمد حرقة قصّة حب فشلت ، أم اليوم فهو يرددها و يحاول أن
يخمد ألم الغدر و حرقة وطن يضيع و ثورة بدأت تأكل اولادها و أبطالها .
من سيقرأ هذه الكلمات سيظن أنني مهتم باقتباس سيناريوهات الدراما التركيّة
الرّخيصة ، لكن للأسف ، إنها حقيقة هذا الوطن و حقيقة شعبه المتعب و ثورته
المسلوبة . صابر المرايحي شاب ابن حومة شعبيّة ، إبن سينا الكبّاريّة بالتحديد ،
عمره 25 سنة ، سيسجن لـ 20 عاما و قضيّته الآن معطّلة في يد محكمة التعقيب ،
التهمة الحقيقة هي المشاركة في الثورة و مساهمته في حماية أبناء وطنه أيام
"الليالي الزّرقة " كما كنّا نسمّيها ، أما التعلّة فهي محاولة قتل و
أقصى تجليات المهزلة تتلخّص بأن من يتهمه بمحاولة قتله عون أمن و دليله على ذلك هي
وصفان هزيلان للجاني و قد ذكر أن من اعتدى عليه كان أبيض البشرة و يرتدي نظّارة و
فيديو مصوّر في يوم آخر شوهد فيه صابر هو رفاقه أيّام الثورة يشتمون و يسبّون
البوليس .
حين سأل أفراد العائلة هذا البوليس عن سبب اتهامه لصابر و هو يعرف جيّدا أنه
بريء ، أجابهم بكل برودة دم " لازم فمّا شكون يخلّص " أي ما يهم حقا هو
الثأر بل ابخس من هذا ما يهمه حقا هو التعويض ، حتى ولو كان على حساب شخص بريء .
لذلك من يظن أن المعني بهذه القضيّة هو صابر نفسه فهو إما غبي أو يتغابى و
على فكرة صابر ليس الوحيد الموقوف على خلفيّة أحداث الثورة ، مئات الشباب يقبعون
في السجون اليوم بتهمة الثورة بينما تغيب عنهم أعين الحقوقيين و الاعلام لانشغالهم
بالتجاذبات السياسية القذرة و ربّما كان صابر أوفرهم حضا و ربّما كان نبيّهم ، علّ
قضيّته تفتح الباب و تلفت نحوهم الأنظار .
في النهاية لا
أريد أن أواسي عائلة صابر و لا أريد أن أواسي أخته سامية المرايحي لأنني متأكد
أنها تحمل في عروقها دم البربريّة و في قلبها حنان السيّدة المنّوبيّة ، إنها
ببساطة إمرأة تونسيّة ، امرأة بألف رجل . الحبس كذّاب و صابر غدوة يروّح ، لكن
العزاء الحقيقي وجب توجيهه لشعب يقتل ثورته يوما بعد يوم و سيكتشف بعد فوات الأوان
أنه قتل آخر أمل للنجاة من الجحيم الذي يتّقيه .
إعداد و تصوير مجموعة " مولوتوف "
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire