حينما أعلمه
المحامي بالحكم الصّادر في حقّه ، لم يتفاجئ كثير ، كان الأمر متوقّعا و قد حضّر
نفسه جيّدا لهذا الإحتمال ، اليوم يبدأ فصل جديد من فصول نضاله المرير في سبيل
حرّية هذا الوطن . ابتسم في وجه القدر السّاخر ، لقد هزمه في هذه المعركة لكن
الحرب مازالت في بدايتها و الطريق شاق و طويل . " كل من ماتوا و سوف يموتون
على باب النهار ، عانقوني ، صنعوا منّي ... قذيفة " ، تذكّر رفاقه الذين
رحلوا و من سيرحلون ، لقد تعلّم كيف يستقبل آلامه برحابة صدر و يبكي جرحه في صمت متشبثا
بخيط العنكبوت الرّقيق و الأمل الصّاعد في الأفق السّحيق . مرر أنامله على الندبة
التي خلّفتها الرّصاصة في عنقه ، شهب من النّار تجتاح المسار الذي سلكته داخل جسده
، يذكر لحظة الرّعب التي جمعته بغريمه ، صوت الرّصاص الذي أردى رفاقه من حوله ،
دماؤهم التي سالت على الرّصيف و لطّخت قميصه ، صيحات ألمهم الحاقدة ، تضرّعاتهم
عند الرّمق الأخير و عجزه المرير أمام فوّهة البندقيّة . لا داعي للخوف من صوت
الرّصاص ، الرصاصة التي تقتلك لن تسمع صوتها . أحس بيد تربّت على كتفه و قبل أن يرى
الشخص الغريب سكن كل شيء و توقّف الكون لبرهة ، رعشة لذيذة في القلب و سهم يخترق
العنق. الرصاصة التي تقتلك تسلبك كل الحواس لكنّها ان أخطأت الهدف تذيقك سوء
العذاب و ينحل الجسد كالسراب لكنّك لا تنال شرف الرّحيل الأخير . سقط على الأرض ،
تلقّفته بشغف عاشقة بربريّة ، كم كان يشتهي أن يقبّلها ، أن يرمي بنفسه على صدرها
و يمتص رحيق اللوز الذي خضّب ثدييها ، كم كان يشتهي أن ينام في هدوء ، فراق الحياة
صعب ، هو لا يكره الموت لكنّه يحب الحياة أكثر . لم يكن مستعدا لفراق ضحكة أخته ،
دمعة أمّه و بريق الرّضا في عين أبيه لم
يكن مستعدا لهجر حبيبته و ترك أخيه ، لم يكن مستعد للتفريط في دماء رفاقه و الثأر
من أعدائه و لهذا صمد كما صمد من غدرهم الرّصاص قبله . رفع رأسه ، أراد أن يرى وجه
قاتله قبل الرحيل لكن هذا الأخير أدّى المهمّة و انصرف . لم يكن له مع الموت موعد
قبل الأوان ، مازال في الجسد قليل من الروح ، قليل من الطاقة و كثير من الإرادة و
الصّمود . وقف بشق الأنفس أحس ببعض السعادة رغم الإرهاق ، كشخص تعلّم السباحة عند
الغرق ، سار عدّة أمتار إلى أن تلقّفه ملاك آدميّ حمله بين ذراعيه الى أقرب دوريّة
للجيش . في المستشفى العسكري ، حقنه المبنّج بحقنة المخدّر و هو يهمس في أذنيه "
أنت بطل يا بني ، واصل نطق الشهادتين حتى ينفذ مفعول المخدّر ".
إلى هنا انتهى
الجزء الأول من قصّة جهاد مبروك ، هذا الشاب الثائر ، و لا أرى فائدة من إتمام
الجزء الثاني فجميعنا يعرف جيّدا المعاناة اليوميّة لجرحى الثورة و عائلات الشهداء ، جميعنا نعرف طعم الدمع و معنى
البكاء . لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن جهاد اليوم صار من اصحاب السوابق بمباركة
حماة الثورة المجيدة ، حكم بثلاث أشهر من السجن و غرامة ماليّة قيمتها مائتي دينار
في إطار قضيّة كيدية تحت عنوان تخريب ممتلكات خاصة و قد جاء هذا في اطار وقفة احتجاجية ضد أحد رموز الفساد الذي
شاءت الأقدار و بمحض الصدفة أن يكون المتضرر في قضيّة الحال . حسمت المعركة بسرعة
جنونيّة و بشكل فجئي دون حتى الإستماع لشهود الجاني الضحيّة و للتنويه فقط فان هذه
القضيّة ليست الأولى من نوعها فقد أحيل جهاد في الصائفة الماضية على المحكمة
العسكرية بتهمة التهرب من الواجب الوطني .
بالتالي فان ما
يعيشه جهاد مبروك من مضايقات هو عمليّة ترهيب ممنهج ، و محاولة لإخضاعه و اخضاع كل
الأصوات الحرّة في هذا الوطن ، جهاد مبروك سيسجن لأنه رفض المتاجرة بدمه و دماء
رفاقه ، لأنه كان حاضرا في كل التحرّكات الشعبيّة المطالبة بالكرامة و الحرّية و
العدالة الإجتماعيّة ، و رغم حالته الصّحيّة السيّئة لم يترك منبرا إلا ووقف فاضحا
سماسرة الدماء و حقوق الشهداء ، أصحاب البدلات السوداء الفاخرة في وزارة إذلال
الانسان و مجلس الخيانة و النسيان .
سيسجن جهاد مبروك
، كما سجن من قبله صابر المرايحي و شباب الثورة في الكاف و سليانة و المكناسي ، لا
عليكم هؤلاء الشباب يعرفون معنى الصّمود ، لقد كانوا أحرارا ولا يزالون حتى و لو
أغلقت في وجوههم قضبان السجون، أما نحن فماذا ترانا سنكون ؟ هل تعرفون؟
مجرّد شياطين
خرس قذرين ، قد لا نكون المذنبين الرّئيسيين لكننا لسنا ابرياء ، يأسنا خيانة و
صمتنا جزء من الجريمة .
صفوان
الطرابلسي
نشر بجريدة
ضد السلطة
16/03/2013
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire