فصل
آخر من فصول السياحة الثورية ذلك الذي تستقبله بلادنا هذه الأيام. ألوان مختلفة
وأشكال نضاليّة عديدة وجنسيات متعددة و شعارات قزحيّة سعيدة تزيّن صورها صفحات
الانترنت والصحف وبعضا من شاشات التلفزات.. كلّ هذا العدد الجميل من الشباب
يجتمعون في بلدنا لنصرة "الزوّالي" و الفقراء المعدمين ولإيجاد حلول
للتنمية والتهميش والعنصرية والبطالة والحروب الأهلية والتعذيب والتطرّف الديني
وسوء التغذية وتفاقم الأوبئة والتجارب النووية.. لتغيير كلّ هذا الواقع الكارثي
المرير في حلقات نقاش ومحاضرات تدوم، رغم هول القضايا المطروحة، لمدّة أربعة أيّام
في تظاهرة رسميّة تشرف على نجاحها وسلامتها حكومة الوكالة الإستعماريّة ذات
الخيارات الإقتصاديّة الليبيرالية ويحميها بوليس النظام.. وقد تتولّد عنها بعض
الإتفاقات والتوصيات والبيانات والتنديدات والإستنكارات التي ستواجه قرارات مؤتمر
دافوس الحاسمة وتمثّل اللحظة المفارقة في محاربة النظام العالمي الجديد وإسقاطه..
المشهد ساخر جدّا لو تدرون. مشهد السخريّة برمّته يذكّرني بلقطة من فيلم هزليّ
نسيت الآن إسمه لكثرة المهازل التي تتابع أمام أعيننا يوما بعد يوم.. في تلك
اللقطة من الشريط، ينظر الملياردير الفاحش الثراء إلى مجسّد مشروع مدينته السكنيّة
الجديدة ويتثّبت من كلّ مراكز الرفاه ومتطلبات الحياة المدنيّة العصرية من
مستشفيات ومدارس وعمارات وطرقات الخ.. ثمّ يأمر مهندسيه بإنجاز شارع كبير مغلق
المنافذ وسط المدينة وأن تقع حراسته ومراقبته جيّدا حتى يضمن فضاء للناس للخروج
للتظاهر والإحتجاج ضدّه بكلّ حريّة ومتى أرادوا ذلك
ينتظم هذا المنتدى/الصالون في نفس
الوقت الذي "يهتزّ فيه العالم تحت وقع المظاهرات، والإضرابات، والإعتصامات
والانتفاضات العارمة، من بلدان الشرق إلى بلدان الغرب، من الدول المسماة ديمقراطية
إلى الدول الديكتاتورية" ففي حين ينتفض مفقّرو الأرض و مهمّشوها لإفتكاك السلطة
وتحقيق الكرامة الإجتماعية و العدالة الإقتصاديّة بين الطبقات والبلدان وإعادة
موازين النظام وتقرير المصير بيد الشعوب، يكتفي بعض من الإصلاحيين والثوّار
العاجزين عن الإلتقاء مع أشكال التنظيمات الريزومية المتأجّجة في الشوارع
والميادين، وبعض من سجناء الترتيبات الهرميّة والأشكال الهيكليّة المتكلّسة
والإديولوجيات السلفيّة، يكتفون بشرف المشاركة في هذه الصالونات الثقافيّة مدّعين
التغيير والفعل من هناك.إن طرق العمل والتنظيم التي تطبع سير هذا المنتدى منذ
سنواته الأولى وصولا إلى مراحل الإعداد له بتونس وإستحواذ البيروقراطيّة النقابيّة
المتكرّشة على إدارته، هي ذات طرق التنظيم والتمويل والتعبئة التي يعمل من أجلها
النظام العالمي الرسمي وتحت طائلة قوانينه ولوائحه التي تدعّي كلّ هذه المنظمات
والأطراف المشاركة في هذا الملتقى محاربتها.سنضع أنفسنا مكان المشاركين في هذا المنتدى
فنطرح سؤالا لا يُمكن أن يُنطق إلاّ بهذه الصيغة: هل نستطيع أن نرفع الشعارات
المناهضة لـ "الإمبريالية الرأسمالية" وننتناقش حول إمكانيّة تطوير
"برنامج عمل ثوري عالمي" بالمشاركة في منتدى إجتماعي نظاميّ وبإتّباع
نهجه الليبرالي الإصلاحي، أم نقاطع فعالياته الرسميّة ونمرّ مباشرة للعمل على خلق
بديل لاسلطوي شعبيّ قاعديّ خارج كل المقاربات البيروقراطية للنقابات المتعفنّة
والمنظمات اللقيطة والأحزاب المشعوذة؟إنّه لمِن التغابي أو دعنا نقول من خبث
الإنتهازيّة السياسيّة أن لا يتفطّن "رفاق" النضال الإجتماعي المشاركين
بكلّ "حماس" في هذا المنتدى الإجتماعيّ إلى نفاذ بارونات رؤوس الأموال
وشبكاتهم عبر العالم في تمويل مثل هذه المنتديات وغيرها من الملتقيات التنظيرية
الإصلاحيّة بالنظر لكلّ هذه الأموال الضخمة المرصودة للتنظيم من ناحية ولتمويل
الجمعيات والمنظمات المشاركة أو مغازلة بعض الحركات المنفلتة
و"اللاتنظميّة" والتأثير عليها من ناحية أخرى. فمنهم (الرفاق) من سيواصل
إنخراطه في مسرحيّة النضال الأممي مأخوذا بالأضواء الهوليودية للرومانسية
الثوريّة، ومنهم من سيوافقنا هذا الرأي ولكنّه سيتعلّل بحجّة التغيير من داخل
الهيكل فيجد نفسه رهن التراتيب والإجراءات مكبلا مغلوبا ضائع الصوت وسط حشود من
المخدّرين بوهم الإصلاح. ومنهم الآخرون الذين سينسحبون باحثين عن الأسباب من قبيل
صهيونيّة بعض المنظمات أو يهوديّة بعض الدول المشاركة متناسين أنّ الأمر لم يعد
سرّا أو عارًا قد يخفيه الساهرون على تنظيم هذه المنتديات العالمية المطبّعة مع
كلّ شيء.. كلّ هذا وذاك يأتي في إطار برنامج إحتواء شامل وسعي إلى إرساء الوفاق
الطبقي والخضوع الإجتماعي الذي تهيمن عليه البورجوازية بآلياتها وأسلحتها
المختلفة، فتساهم كلّ هذه الحركات "المقاومة" بمشاركاتها الرعناء في
إنجاحه..إن توفـّق النظام العالمي في ترويض مكوّنات الرفض عبر العالم بات أمرا جدّ
هام لما يمثّل إستيعاب هذه القوى من ضمان "صمّام أمان" يمتصّ القدرات
الثوريّة المتفجّرة والطاقات الحقيقية المؤثرّة ويحتويها داخل فضاءات مغلقة بعيدا
عن "خطر" الحراك الجماهيري في الميادين مستغلا في ذلك قصور هذه الحركات
عن التفكير في بدائل تنظيميّة جديدة وفي تحيين قراءاتها لواقع المشاكل المتفاقمة
اليوم، بعيدا عن كليشيات التنظيم العقيمة وقدسيّة المراجع الإديولجيّة المتزمتة
التي حالت ولا تزال دون إيجاد حلول واقعية ناجعة لتثوير الشارع والعمل بتلازم مع
صفوف الجماهير في الأحياء المنسيّة والمدن المهمّشة والقرى النائية التي لم و لن
يسمع مسحوقيها أبدا عن مثل هذه المهرجانات و الصالونات الديمقراطية
إن رهان قلب نظام رأس المال الفاسد
تأكـّد عقمه بمثل هذه الشطحات الإستعراضيّة والتمارين الحركيّة لنضال المخابر
والتجريد. فمن مهازل هذه المنتديات المتشدقة بأحلام المفقرّين عبر الأرض أن تقودها
بيروقراطيات نقابية متعفنّة متاجرة بدماء الشغّالين ضمن حسابات المحاصصة السياسية
القذرة، وتشارك فيها منظمات قانونيّة نظاميّة تخضع في تنظيمها و مراقبتها و
تمويلها إلى سلطة الدولة ورأس المال، وتزكّيها أحزاب سياسية يمينيّة أو يساريّة
بورجوازيّة متناحرة على السلطة.. هذه الأحزاب -التي لم تعد ترى المسألة الوطنيّة
إلاّ عبر صناديق الإقتراع التي كانت أوّل طعنات الغدر في ظهر الثورة- إنمّا تلح
على تواجدها في مثل هذه الفرص للقيام بخطوات تكتيكيّة بحتة لحشد ما تبقى من أصوات
قد تغرّد خارج السرب الإصلاحي عبر العالم و زجّها في الإنتخابي القادم وللعب أدوار
البطولة الثوريّة أمام العدسات بعد أن إنكشفت حقيقة وجوههم القذرة على أرض
المعركة.. إن الساعين إلى المشاركة في المهازل الإنتخابية المشروطة، السابقة منها
والقادمة، لن يكونوا من أبطال قلب النظام العالمي المتوحش والحراك المجتمعي الدائم
إذ هم أوّل المشاركين في تأثيث مسرحه المقسّم الأدوار بين موالاة ومعارضة وأوّل
اللاهثين المسعورين إلى إعتلائه كراسيه.. فهل يمكن لبطارنة السياسة ومراهقي
الإعلام وسلفيي الأيديولوجيات و "متشعبطي" المجتمع المدني أن يكونوا
نواة التثوير من داخل ورشات عمل نظاميّة مدجنّة تفصلها عن الشارع مئات السنوات
الضوئيّة؟؟إنّ تجارب الثورات الشعبيّة و الحراك الإجتماعي المغيّر التي شهدتها
بلادنا وتشهدها العديد من بلدان العالم أمام هذا التآكل لنظام الرأسمالي العالمي
لهي أكبر دليل عن عجز المعارضة الثقافية عن خلق المفارقة التاريخيّة، فعندما يجد
هؤلاء الثرثارين وثوريي الصالونات والبرلمانات أنفسهم وجها لوجه في الحياة
الواقعية أمام الثورة فإنهم لن يدركوها أبدا. فأي بوصلة لا تدّل على التنظّم
الذاتي لجماهير المفقرين والعمّال وتصرّفهم في الموارد و الثروات كخطوات أولى في
سبيل إزالة السلطة هي بوصلة واهمة تصوّر وهم الحلول الإصلاحية، بالرغم من إتخاذها
بعدا عالميا، حتميّة تاريخيّة لحلول ما يسمّونه الإنتقال الديمقراطي والذي ما فتئ
يذهب بنا في واقع مؤسف إلى الوراء
" منقول عن صفحة " مـــولـــوتـــوف
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire