كان يجلس
في ذهول ، تلهيه هالة الأضواء و الأجواء الغريبة لقاعة التّصوير عن ما يدور من
حديث داخل " الأستوديو " .
نظراته المبهمة ، الهائمة مثّلت أبلغ تعبير عن سذاجة الطّفولة المقهورة . استهوته
آلات التّصوير الكثيرة و أشكالها المتنوّعة الغريبة ، أبهرته فخامة الأثاث، تمنّى
لو كان لهم في البيت أريكة مريحة كالتي يجلس عليها الآن ، كان سيتسنّى لوالدته
النّوم في راحة ، دون أن تنغّص ليلتها آلام الظّهر اللّعينة. تسرقه أحلام اليقظة ،
تأخذه في رحلة لذيذة ، يتخيّل هذا المكان ملكا له ، يتخيّل نفسه و قد صار رجلا
بشاربين كثّين ، جالسا خلف هذه الآلات الخرافيّة يحركها و يكلّم من حين لآخر
سيّدة جميلة كالتي تجلس أمامه الآن . تطير به الأحلام ، ينسى خجله لدقائق لكن لغط
الجمهور يأتي من حين لآخر فيوقظه ليعيده إلى واقعه المرير ، يحاول أن يسأل
أمه عن سبب قدومه إلى هذا المكان ، لكنها تنتهره بلطف ، تسكته بوخزة صغيرة هامسة
في أذنه " تأدّب يا بنّي ، الناس يشاهدوننا ، كن عاقلا ... " . هي
أيضا يحتلّها الخجل ، ماذا ستجيبه إن أصر على سؤاله ، جئنا هنا لنتسوّل ، نفضح
آلامنا أمام آلاف البشر على المباشر ، ترى هل سيغفر لها حين يكبر؟ هل سيتفهّم
معاناتها ؟ تهاجمها اسئلة بغيضة لكنها مع ذلك تخفي حرجها و تواصل حوارها الثقيل مع
المذيعة بينما طفلها يغوص في أحلامه ، محاولا لجم فضوله و الإكتفاء بإمتاع نظره .
فجأة تضع أمّه المصدح بين يديه و تباغته السيّدة الأنيقة بسؤال غريب لم يعتد سماعه
" أحمد ... قل لي ماذا تريد ، ما الذي ينقصك ..." ، السؤال مفاجئ ، غريب
أمر هذه السّيدة ، تفحّصها بنظرة سريعة ، أنيقة و جميلة ، جذبه لمعان السّاعة في
معصمها و بشرتها البيضاء السّاحرة .ظل صامتا لبرهة لكنّها ألحّت عليه " أحمد
تكّلم ، لا تخجل ، ما الذي تريده ، ما هي الأشياء اللتي تحبّها ؟ " . "
ماذا تريد ، ماذا تحب ، ما الذي ينقصك ؟ " هو يريد أشياء كثيرة ، تنقصه
أشياء كثيرة ، ترى هل يستسمحها اللّعب بتلك الآلات الغريبة ، هل يطلب منها أخذ
الأريكة كي يخفف من ألم والدته ، هل يصارحها بأنّه يريد تقبيلها و يشتهي أن يملك
في يوم من الأيّام ساعة لامعة مثل ساعتها ... إنساب مع سيل أمانيه المكتومة
لكنّ خاطرا ثقيلا نغّص تفكيره البريء ، تذكّر كلمات معلّم
الرّياضة حين نهره و منعه من اللّعب في حصّته نظرا لأنه لا يملك حذاءا رياضيا ،
تذكّر نظرات الشفقة في عيون زميلاته و عبارات السّخرية التي نبس بها الصبية و هم
يشيرون إليه و يغيظونه ، تذكّر الوقوف المهين تحت سور الملعب ، حابسا دمعه ، كاظما
حقده مصطنعا عدم المبالاة أمام أصدقائه . غالبته الأحاسيس و دون أن يشعر تنهّد
ناطقا عبارته اليتيمة بحرقة "" "أريد حذاءا رياضيا "
كلماته خرجت كالرّصاصة لتخترق قلوب كل من شاهدوه ، سكت الجميع و نزل على
الحاضرين صمت مريع إذ لم يتمالك الطفل نفسه و أجهش بالبكاء ، إنّه الصمت المقدّس
في حضرة الألم الأزليّ للبشر المضطهدين . ضمته الأم بين ذراعيها محاولة مواساته و
مسح دموعه المنهمرة ، لكنّها لم تتمالك هي الأخرى نفسها ، كان إحساس الذنب ينهشها
، ما الذي أتى بها إلى هذا المكان الملعون سوى الشيطان و الفقر المهين . ارهقها
كبت مشاعرها و استسلمت لبكاء مر ، لم تكن وحدها تبكي ، بكت المذيعة و
الجمهور و لن تكون إنسانا إن لم تبكي دما عند مشاهدة هذا الفصل الدّرامي الواقعي.
لكن ما فائدة دموعك أيّها السّاذج أمام هذا البؤس المقزز ، ما نفع نواحك ما دمت
ستجد ألف تعليل لركودك حين تخلد إلى نفسك ، بكاؤك مجرّد ترويح عن النفس يسكت
إحساسك بالذّنب و بالمسؤوليّة تجاه هؤلاء المعذّبين على الأرض. لن تتحمّل المشهد ،
لا عليك حاول الهروب و غير القناة لكن بذاءة الواقع ستلاحقك ، نشرة الأخبار ينضح
منها العار ، نوّاب المجلس التأسيسي يسعون لتمرير منحة جديدة ، صراع ديكة تحت قبّة
مجلس الشّعب ، من سينال شرف سرقة الشّعب ، شتائم و مشادات و ترّهات ، شريط هندي
مبتذل ، هذا يريد اقتناء سيّارة و الآخر لديه إلتزامات عائليّة و ثالث لم تعد
تكفيه " الشّهريّة " و رابع يريد منحة سياحيّة و خامس يعربد لأن
إيجار مكتبه ارتفع و سادس لأن" الوسكي " عن طاولته انقطع و الشعب مازال
يجتر الصبر ، ينتظر يوم الفرج و الدّستور أكله الحمار و الوطن يهدده الدّمار و
أحمد مازال يجلس كل اسبوع خلال حصّة الرّياضة تحت السور لأنه لا يملك ثمن
حذاء رياضي ...
صفوان الطرابلسي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire