vendredi 10 mai 2013

تحت السّور

كان يجلس في ذهول ، تلهيه هالة الأضواء و الأجواء الغريبة لقاعة التّصوير عن ما يدور من حديث داخل " الأستوديو " . نظراته المبهمة ، الهائمة مثّلت أبلغ تعبير عن سذاجة الطّفولة المقهورة . استهوته آلات التّصوير الكثيرة و أشكالها المتنوّعة الغريبة ، أبهرته فخامة الأثاث، تمنّى لو كان لهم في البيت أريكة مريحة كالتي يجلس عليها الآن ، كان سيتسنّى لوالدته النّوم في راحة ، دون أن تنغّص ليلتها آلام الظّهر اللّعينة. تسرقه أحلام اليقظة ، تأخذه في رحلة لذيذة ، يتخيّل هذا المكان ملكا له ، يتخيّل نفسه و قد صار رجلا بشاربين كثّين  ، جالسا خلف هذه الآلات الخرافيّة يحركها و يكلّم من حين لآخر سيّدة جميلة كالتي تجلس أمامه الآن . تطير به الأحلام ، ينسى خجله لدقائق لكن لغط الجمهور يأتي من حين لآخر فيوقظه  ليعيده إلى واقعه المرير ، يحاول أن يسأل أمه عن سبب قدومه إلى هذا المكان ، لكنها تنتهره بلطف ، تسكته بوخزة صغيرة هامسة في أذنه " تأدّب يا بنّي ، الناس يشاهدوننا ، كن عاقلا ...  " . هي أيضا يحتلّها الخجل ، ماذا ستجيبه إن أصر على سؤاله ، جئنا هنا لنتسوّل ، نفضح آلامنا أمام آلاف البشر على المباشر ، ترى هل سيغفر لها حين يكبر؟ هل سيتفهّم معاناتها ؟ تهاجمها اسئلة بغيضة لكنها مع ذلك تخفي حرجها و تواصل حوارها الثقيل مع المذيعة بينما طفلها يغوص في أحلامه ، محاولا لجم فضوله و الإكتفاء بإمتاع نظره . فجأة تضع أمّه المصدح بين يديه و تباغته السيّدة الأنيقة بسؤال غريب لم يعتد سماعه " أحمد ... قل لي ماذا تريد ، ما الذي ينقصك ..." ، السؤال مفاجئ ، غريب أمر هذه السّيدة ، تفحّصها بنظرة سريعة ، أنيقة و جميلة ، جذبه لمعان السّاعة في معصمها و بشرتها البيضاء السّاحرة .ظل صامتا لبرهة لكنّها ألحّت عليه " أحمد تكّلم ، لا تخجل ، ما الذي تريده ، ما هي الأشياء اللتي تحبّها ؟ " . " ماذا تريد ، ماذا تحب ، ما الذي ينقصك ؟ "  هو يريد أشياء كثيرة ، تنقصه أشياء كثيرة ، ترى هل يستسمحها اللّعب بتلك الآلات الغريبة ، هل يطلب منها أخذ الأريكة كي يخفف من ألم والدته ، هل يصارحها بأنّه يريد تقبيلها و يشتهي أن يملك في يوم من الأيّام ساعة لامعة مثل ساعتها  ... إنساب مع سيل أمانيه المكتومة لكنّ خاطرا ثقيلا نغّص تفكيره البريء ، تذكّر كلمات معلّم الرّياضة حين نهره و منعه من اللّعب في حصّته نظرا لأنه لا يملك حذاءا رياضيا ، تذكّر نظرات الشفقة في عيون زميلاته و عبارات السّخرية التي نبس بها الصبية و هم يشيرون إليه و يغيظونه ، تذكّر الوقوف المهين تحت سور الملعب ، حابسا دمعه ، كاظما حقده مصطنعا عدم المبالاة أمام أصدقائه . غالبته الأحاسيس و دون أن يشعر تنهّد ناطقا عبارته اليتيمة بحرقة ""   "أريد حذاءا رياضيا "  كلماته خرجت كالرّصاصة لتخترق قلوب كل من شاهدوه ، سكت الجميع و نزل على الحاضرين صمت مريع إذ لم يتمالك الطفل نفسه و أجهش بالبكاء ، إنّه الصمت المقدّس في حضرة الألم الأزليّ للبشر المضطهدين . ضمته الأم بين ذراعيها محاولة مواساته و مسح دموعه المنهمرة ، لكنّها لم تتمالك هي الأخرى نفسها ، كان إحساس الذنب ينهشها ، ما الذي أتى بها إلى هذا المكان الملعون سوى الشيطان و الفقر المهين . ارهقها كبت مشاعرها و استسلمت لبكاء مر ،  لم تكن وحدها تبكي ،  بكت المذيعة و الجمهور و لن تكون إنسانا إن لم تبكي دما عند مشاهدة هذا الفصل الدّرامي الواقعي. لكن ما فائدة دموعك أيّها السّاذج أمام هذا البؤس المقزز ، ما نفع نواحك ما دمت ستجد ألف تعليل لركودك حين تخلد إلى نفسك ، بكاؤك مجرّد ترويح عن النفس يسكت إحساسك بالذّنب و بالمسؤوليّة تجاه هؤلاء المعذّبين على الأرض. لن تتحمّل المشهد ، لا عليك حاول الهروب و غير القناة لكن بذاءة الواقع ستلاحقك ، نشرة الأخبار ينضح منها العار ، نوّاب المجلس التأسيسي يسعون لتمرير منحة جديدة ، صراع ديكة تحت قبّة مجلس الشّعب ، من سينال شرف سرقة الشّعب ، شتائم و مشادات و ترّهات ، شريط هندي مبتذل ، هذا يريد اقتناء سيّارة و الآخر لديه إلتزامات عائليّة و ثالث لم تعد تكفيه " الشّهريّة "  و رابع يريد منحة سياحيّة و خامس يعربد لأن إيجار مكتبه ارتفع و سادس لأن" الوسكي " عن طاولته انقطع و الشعب مازال يجتر الصبر ، ينتظر يوم الفرج و الدّستور أكله الحمار و الوطن يهدده الدّمار و أحمد مازال يجلس كل اسبوع خلال حصّة الرّياضة تحت السور  لأنه لا يملك ثمن حذاء رياضي ... 

صفوان الطرابلسي 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire