يشهد المجتمع العربي أزمة هويّة و
منهجيّة أنتجت اغترابا فكريا و حضاريا دام لقرون عديدة و يبدوا أنّه سيتواصل
ليلتهم آمال الشعوب المضطهدة في الثّورات المعاصرة ، كما نلاحظ في الفترة الأخيرة
تفاقم لهذا الانفصام في الشخصيّة العربيّة خصوصا مع انفتاح المشهد الإعلامي على
مشايخ الوهابية و صعود الإسلام السياسي إلى سدّة الحكم في عديد الدول ذات الثقل
الحضاري و الإستراتيجي كتونس و مصر و ليبيا بالإضافة إلى انعكاسات التجاذب الدولي
الحاصل في ما يخص الأزمة السّوريّة .
صعود الإسلام السياسي و
غزوة الفكر الوهابي
لم
يكن صعود الحركات الإسلاميّة إلى سدّة الحكم إثر الثورات العربيّة بالأمر المفاجئ
، كان من المتوقّع تصدّرها للمشهد في الفترة الانتقالية ، و قد ساهمت عدّة
عوامل منطقيّة في منحها هذه الفرصة أهمّها استبطان قياداتهم لخطاب دعائي على
المقاس الدولي و هرولتهم لتقديم الضمانات و طمأنة الدول الكبرى على سير مصالحها
الإستراتيجيّة داخل المنطقة بالإضافة إلى تمتعهم بالدعم الدبلوماسي و المادي
المتأتّي من دول الخليج . هذا على الصّعيد الدولي أمّا على الصعيد الشعبي فقد تركت
الأنظمة السّابقة جملة من العقد التي استثمرتها هذه الحركات في خضم صراعها
الانتخابي و أبرزها التعاطف الشعبي الناتج عن القهر الذي تعرضت له قواعدها خلال
فترة الدكتاتوريّات السّابقة و لعبها على وتر الهويّة و الدين من خلال ترويج
الفكرة القائلة بأن الإسلام في خطر و أن هذه الشعوب الضالة في حاجة إلى "
نبيّ جديد " يثبّت في كيانها الإيمان و يعيدها إلى رشدها بعد نشوز. من هنا
فتح الباب لتسرّب الأفكار الرّجعيّة التي يهل بها سفراء الظلاميّة من شيوخ
الوهابيّة ،لينتشر الفكر التكفيري المتعصّب ، القائم على نبذ العقل و هدفه ككل فكر
رجعي إرهاب الشعوب و غرس عقليّة القطيع في ثقافة المجتمع و هذا ما سكون سببا
في تعميق الأزمة الفكريّة التي تعيشها الشعوب العربيّة كما تسبب و سيتسبب في خلق
" ظواهر مدمّرة " ستفضي بهذه المجتمعات إلي دوّامة العنف الممنهج و تفتح
الباب أمام تركيز دكتاتوريّة جديدة ذات بعد ديني ، قائمة على منهج محاكم التفتيش ،
تقمع كل فكر مغاير و أي محاولة للتطوير و التجديد ، ولنا في التّاريخ شواهد عدّة ،
فلا شك أننا نعلم كيف حوصر الطبري حتّى موته في محنته الشهيرة و كيف صلب الحلاّج و
سجن إبن حيّان حتى وفاته أما إبن المقفّع فقد قطّعت أوصاله و أحرقت كتب إبن رشد
أمام عينيه في احتفال عام و قد امتد هذا الفكر حتّى التاريخ المعاصر لنشهد اغتيال
حسين مروة و فرج فودة و مصطفى العقّاد و إعدام هاشم آغاجاري بعد محاضرة أتهم فيها
بإهانة النبي و أخيرا و ليس آخرا اغتيال المناضل اليساري شكري بالعيد . بالتّالي
هل يعقل أن تنتج ثورة على نظام مستبد آخر أكثر استبدادا ، و من هو الملام في خضم
هذا الواقع المزري ؟
لن نلوم الحركات الإسلاميّة إذ من
الواضح أنّها تعتبر هذا التردّي الثقافي جزءا من مشروعها ، لكننا نوجه
الأنظار نحو النخبة و الطلائع الشعبيّة و الفكريّة و السياسيّة ، التي تخفي تحت
رداء الحكمة و التوازن خوفا من المواجة الفعليّة و عجزا على بلورة بديل ثوري و
المرور به من مرحلة التنظير إلي الفعل العملي .
الثورة العربيّة و غياب
النظريّة الثوريّة :
الثورة هي التغيير المفاجئ السريع
و العميق في الكيان الاجتماعي ، هدفه القطع مع الاحوال القائمة في المجتمع وذلك من
خلال إعادة تنظيم وبناء هيكلة إجتماعيّة مبنيّة على منظومة قيميّة جديدة .
قد يختلف المفكّرون من النّاحية النظريّة في توصيف هذا المفهوم ، لنجد
التعريف التقليدي الذي صيغ ابّان الثورة الفرنسيّة و المتمثل في تغيير نظام الحكم
بالقوّة إثر هبّة شعبيّة بقيادة الطلائع المثقّفة و قد طوّر الفكر الماركسي
فيما بعد الفكرة من خلال تحديده للطلائع المثقّفة المتمثّلة في القيادة العمّاليّة
للبروليتاريا و دورها التأطيري للفعل الثوري الجماهيري. اما التعريف المعاصر
فيلخّص الثورة في التّغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته( كالقوات
المسلحة ، شخصيّات وطنيّة تاريخيّة ، نقابات ... ) لنظام الحكم العاجز عن تلبية
طموحاته و المرور إلى تنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية . و نلاحظ
هنا الرابط الجدلي بين إسقاط نظام الحكم و بلورة البديل الثوري الذي يمثّل غيابه
احد الأسباب الرئيسيّة في تعثّر الثورة العربيّة . غياب المشروع الثوري زاد
في ضبابيّة الهدف المنشود و أسقط عن التحرّكات الشعبيّة طابعها الممنهج مما فتح
الأبواب أمام القوى الرّجعيّة المدعومة من الإمبرياليّة الأمريكية للصعود إلى سدّة
الحكم ، كما فتح المجال لركائز النظام السابقة حتى تتموقع من جديد داخل المشهد
السّياسي و تعيد التمترس داخل مفاصل الدولة من خلال صفقات مشبوهة غير معلنة مع
الحكّام الجدد مما عزل القوى التقدمّية داخل الإطار الضيّق للفعل الاحتجاجي العابر
. ففي ضل غياب الدعم الخارجي ( ماليا و دبلوماسيا ) يبقى الحل الوحيد أمام القوى
الثوريّة هو التضحية في سبيل إنتاج حركة ثوريّة حقيقيّة يتمخّض عنها بديل ثوري ،
فمن البديهي أنه لا وجود لحركة ثوريّة بدون نظريّة ثوريّة و هو ما يضع الطلائع و
النخبة المثقّفة أما امتحان صعب أو بالأحرى أمام نداء الواجب التّاريخي ، فمستقبل
هذه الشعوب المضطهدة يعتمد على مدى وعيهم بحساسيّة المرحلة و مدى قدرتهم على بلورة
مشروع فكري ثوري ينتج بديل سياسي قائم على مبادئ : الحرّية ، الكرامة و العدالة
الإجتماعيّة .
صفوان الطرابلسي