jeudi 25 avril 2013

الشعب صابر ... سيّب صابر / 2

الثامنة صباحا ، شارع باب بنات يعج بخلق الله المتعبين ، المقاهي قبالة المحكمة كخلايا النّحل في ذروة عملها المحموم ، محامون ، مدّعون ، مواطنون عاديّون ، المذنبون منهم و المظلومون ، يدخلون و يخرجون في هرج و مرج أبديّين لا يكتسب هذا الشارع روحه و لا إسمه دونهما . على الرّصيف الأمامي في الرّكن الأيسر قبالة الزّقاق الفرعي الذي يتم عبره إدخال المتهمين إلى المحكمة ، كانت عائلة صابر المرايحي و أولاد حومته ينتظرون  وصوله بفارغ الصّبر ، كل الأهالي  يرابطون قبالة هذا الزّقاق طامعين في رؤية أبناءهم و لو من خلال شبّاك سيّارة البوليس ، يبادلونهم نظرة عابرة و يشجّعونهم  ببعض الكلمات الضّائعة . سامية الأخت الكبرى لصابر كانت أكثر المجموعة نشاطا ،  يحدوها أمل حقيقي  في الإفرج عن أخيها اليوم ، كانت مشتاقة إلى أن يعود الصّفاء للبيت الصّغير و تعود الضّحكة لثغر أمها المجروحة ، كانت مشتاقة إلى رؤية الرّاحة و الطمأنينة تغزو محيّا والدها من جديد . اخذت تتنقل كالمجنونة بين عائلتها و بعض الأصدقاء المرابطين في المقهى المقابل ، الهاتف لم يتوقف على الرّنين منذ سويعات الفجر الأولى ، تردّ على المكالمات ، تتصل بالمحامين و تلقي التّصريحات  للوسائل الإعلامية القليلة التي اهتمّت بالقضيّة فمحاكمة صابر يتجلّى فيها البعد السياسيّ بامتياز ، مرآة ينعكس فيها الواقع التّعيس للثّورة التّونسيّة . صبار المرايحي مسجون منذ حوالي السّنة و النّصف بتهمة المشاركة في الثّورة ، وجهت له تهمة محاولة القتل العمد و إحراق سيّارة بعد أن أسقطت  عنه دائرة الإتّهام تهمة السّرقة . و ما هو معلوم ، أن المجني عليه أي  المتضرر في قضيّة الحال  عون أمن تم الإعتداء عليه إثر مروره  بحي مجاور لحومة صابر تزامنا مع وفات طفل صغير عمره لا يتجاوز أربعة عشر سنة برصاصة في الرّأس ، لكن الغريب في الأمر أن دائرة الإتّهام ثبتت التهمة على الشاب رغم إقرار الشهود بعدم تواجده في مكان الحادثة في ذلك الوقت بالإضافة إلى عدم وجود أي دليل مادي على الجريمة ، سوى أوصاف عامة ذكرها عون الأمن كارتداء قبّعة و نظّارة أو لون البشرة بالإضافة إلى شريط فيديو منشور على شبكة الفايسبوك بتاريخ  يوم آخر غير يوم الجريمة ، ظهر فيه صابر  المرايحي رفقة بعض الشّباب من أبناء الحي و هم يسبّون البوليس إبّان " أحداث ما يسمّى بالثورة " إذ هكذا كان يحلوا لهم دائما تسميتها في محاضر جلساتهم .
مرّ الوقت ثقيلا و حان موعد الجلسة ، توجّه الجميع إلى القاعة عدد ستّة . منع شرطي بعض الشباب من الدّخول بتعّلة  ارتدائهم قمصان كتب عليها " الحرّية لصابر المرايحي " ، حاولوا إيقاف شاب آخر كان قد ألصق على الحائط ببهو المحكمة أوراقا كتب عليها شعارات ساخرة تندد بالمحاكمة . لكن مع ذلك مرّت العمليّة بسلام و تمكّنت العائلة و بعض الأصدقاء من الدّخول رغم أن الجلسة في الأصل مغلقة . جلس الجميع في صمت قبل أن ينادى على الشّاب المتّهم ، وقف أمام القاضي ، ثابتا ، كان يعرف أن عين أمّه الدّامعة تراقبه بحنان خرافي ، كان يتخيّل أخته و هي تتخبّط في مكانها ، يحرق كبدها شوق ناريّ لكنّه مع ذلك تمالك أعصابه ، أخفى ضعفه و تشاؤمه و ترك للمحامي أن يتكلّم على لسانه معربا عن إستغرابه من غياب المجني عليه و مصرّا على براءة موكله طالبا من المحكمة قبول  إطلاق السّراح المشروط  مع  إلتزام صابر بالحضور كل ما تم  إستدعاؤه  .
رفع القاضي الجلسة ،إذ سيتم النّظر في مطلب السّراح خلال المداولة و إصدار القرار فيما بعد . خرج الجميع من القاعة تملؤهم شحنة من التّفاؤل ، القرار لن ينزل إلى الكتابة قبل الرّابعة ، عادوا الى البهو تبادلوا أطراف الحديث ، الأم و الخال مع المحامي يستفسرون عن مسار القضيّة و الشباب تجمعوا في ركن يحاولون الترويح عن أنفسهم ببعض الأحاديث الجانبيّة ، رغم أنّهم لا يعرفون بعضهم البعض الّا أن القضيّة خلقت بينهم رابطا معنويّا قويّا . فيما بعد  ذهبت الأم مع الخال الذي يقطن في حي قريب ، امّا سامية فقد انسحبت مع أصدقائها الى مقهى الشوّاشين بالمدينة العربي . كأس من الشاي السّاخن ، سيجارة و القليل من الفن العتيق قد يفي بالغرض و يخفف من حدّة التّرقب الموجع ، جلّهم منهكون لم يناموا منذ البارحة و عليهم الإنتظار حتّى العصر علّ القدر يحن و ينفحهم بخبر سعيد ينهي ولو مؤقتا هذه المعاناة .  
تمكّن الجميع من الصّمود الى هذا الحين ، عند الساعة الرّابعة نفذ الصّبر  عادوا إلى المحكمة ، جلسوا بالبهو كل يحاول قتل الوقت بما أتيح في يده من وسائل ، سامية تتسلّى بإطعام قطّة صغيرة ، شاب يغنّي و آخر يقرأ جريدة قديمة ، بينما أحرق الإنتظار أعصاب الأم فنهضت و دخلت الى مكتب الكتابة لتسأل عن القرار الصّادر في حق إبنها . طال مكوثها ، نزلت على المنتظرين غمامة تشاؤم ، بدأت الغمغمات و الهمهمات تتسربل بينهم كالوباء ، إلى أن صعقهم الخبر ، رفض الطّلب و تأجيل القضيّة الى يوم الرّابع و العشرين من ماي .
حاول الجميع تمالك أعصابهم و خصوصا الأم التي أحرجها أن تبكي أما أصدقاء إبنتها ، هي التي حرصت دائما على أن تظهر بصورة المرأة المقاومة ، اتصلت بالمحامي الذي شرح الوضع ، لقد رفض القاضي طلبهم نظرا لغياب المجني عليه و خطورة التّهم التي كالتها دائرة الإتّهام لصابر . وقد نوّه إلى أن هذا الغياب كان متعمّدا كي يطيل في أمد حبس الشاب علّهم يرضخون لمطالبه و يدخلون معه في مساومات  ، فبالنسبة لهؤلاء البشر القذرين ما يهم هو التعويض و أما حياة شاب في مقتبل العمر فتهون أمام حاجاتهم الماديّة أو طموحاتهم السياسيّة  . ما إن أنهت المكالمة حتى تنهّدت بصوت مسموع ، رفعت رأسها للسماء و دعت على الظّالم ثم استسلمت لبكاء صامت حارق . سامية أيضا كان تشتتها واضحا رغم ما عرف عنها من صمود ، تقاسم قلبها إحساس مهين بالضّعف و الغبن و حقد أسود يطالب بالثأر و يشعل النّار في كامل الجسد . تبادل الجميع النظرات و كلمات العزاء لكنّهم أجمعوا على أن الطريق مازال طويلا و قد تعهّد الجميع بمواصلة التّحرّك  ، صحيح أنّهم ليسوا كثرا – فقضيّة صابر لا تمثّل مادّة إعلاميّة دسمة أو فرصة سياسيّة تغري بالرّكوب عليها  كما أنّها قضيّة تتجاوز الحدود التي رسمها النظام للّعبة السياسيّة إذ  ستكشف خور المسار الثوري المبتذل الذي نعيشه - لكن مع ذلك هم ليسوا في حاجة لتعزيزات مناضلي الإحتفالات الفلكلوريّة ، سيصمدون بمفردهم ، أولاد الأحياء الشعبيّة كفيلون بالدّفاع عن القضيّة و بذل التّضحيات في سبيل إستكمال ثورتهم و صابر المرايحي يمثل اليوم رمزهم ، معاناته و معاناة عائلته دافع لهم حتى يكملوا المسيرة و صموده خلف القضبان يلهمهم العناد و يحرّضهم على المقاومة في الشوارع الخلفيّة و على الأرصفة المجهدة لهذه المدن المتخمة بالمال القذر و المثخنة بجراح الدّهر جرّاء الظلم و الإستغلال .

 صفوان الطرابلسي 
نشر بجريدة ضد السلطة
في 25/04/2013  

jeudi 18 avril 2013

الشعب صابر ... سيّب صـــــــــابر

تكون النهاية حين يسقط القناع و تكشف وجوه المدّعين عن قبحها. قبل انتحارها ، تأكل الثورة أولادها خوفا و حماية لهم من عار الهزيمة. لن يتحمّلوا بذاءة المشهد الأخير و سيرحلون قبل نزول السّتار. سينسى الشهداء ، يضيع الثأر و يتوقف الأهل عن البكاء. يهان الجرحى و تنظّف الأرصفة من بقايا دمائهم الطّاهرة. كأن شيئا لم يكن ، يعود الشعب الى السبات ، و يعود المارد المجنون ليلبس تاج القيصر و يصفّي الحساب القديم. لقد حان موعد الإنتقام ، لا يتطلب الأمر حكمة أو معجزة لتبصر الحقيقة. فقط حاول أن تعرّج على بهو المحكمة ، و اسأل عن الشّاب المكبّل بالأصفاد ، اسأل عن صابر و ربّما لن يحتاج الأمر الى السّؤال ستعرفه دون حاجة الى دليل ، ربّما لأنه يشبهني و يشبهك ، ابن هذا الشعب الصّابر المكابر ، زائر عابر لهذه الدّنيا اللّعينة ، سيء الحظ كسائر القاطنين في الأحياء الحزينة. نظرته الحالمة لم تفارق عينيه رغم مرور أكثر من عام و نصف في غياهب السّجون ، رغم الحزن و القهر و الحقد لازال يبتسم حين يرى صمود أخته ، حين تحدّثه عن مساعي أصدقائه أولاد الكبّارية و كل أحرار الوطن في الأحياء الشّعبيّة. وحدها دمعة أمه تكبّله ، زفرة والده المكتومة تأرق قلبه العليل ، يرتفع صوت نبضاته ، ينفجر في وجوه الحاضرين ، يخترق الصّمت الثّقيل و يحاول تحريك شعب أصم علّه يكشف عورة الحاكم العميل. يقف أمام غريمه شامخا ، يطالع القاضي بعين ثابتة و رأس مرفوع ، ملف القضيّة ورقة و التهمة ثورة أو "ما يسمّا بالثّورة"هكذا  يحلو لهم أن يذكروها في محاضرهم المزوّرة. تهمته وشم على جبين كل إنسان حر و من يخرج عن دائرة الإتهام ليس سوى خائن متستر بالعلم الأحمر. ستشعر بالعجز ، تحتقر نفسك امام هذه الهامة الصّامدة ، ستبكي حرقة ، ترفع عينيك للثائر المسجون تحييه في خجل ، تلعن النّظام و القانون ثم تغادر على عجل تاركا للحاضرين اتمام المشهد الأخير. تسير على الرّصيف في انحناء ، تسمع نواح الطّراقات ، صرخات الشوارع و السّاحات ، الأرض تنادي و لا من مجيب ، تسير وحيدا مهووسا بهذه الأصوات ، لا يسمعها غيرك ، صابر المرايحي ليس صاحب قناة تلفزيّة ، ليس سياسيّا مخضرما باع ذمّته للدّوائر الإنتهازيّة أو ثائرا مثقوبا من ثوّار المنابر ، لذلك لن يلتفت لقضيّته الإعلاميّون و لا صائدو الفضائح المهووسون ، قضيّته تتجاوز الحدود التي رسمها لهم النّظام ، قضيّة حرّم فيها الكلام ، انها قضيّة وطن ، قضيّة ثورة ، قضيّة شعب يزنا فيه كل ليلة و لازال ينتظر نزول المسيح لينقذه.
تنويه : تمّ أخيرا تعيين جلسة في القضية المرفوعة ضدّ "صابر المرايحي" من طرف أحد أعوان البوليس. وقد حدّدت المحكمة الإبتدائية بتونس 1 تاريخ 19 أفريل القادم للنظر في القضية. وللتذكير فإنّ التّهم الموجهة إلى "صابر المرايحي" تتمثّل في القتل العمد وإضرام النار في سيارة بعد أن أسقطت عنه دائرة الإتهام تهمة السرقة في ما وصفته بأحداث العنف والشغب التي تسمّى بأحداث الثورة و الدّليل مقطع فيدو شوهد فيه صابر رفقة مجموعة من الشباب يسبّون البوليس...

صفوان الطرابلسي 
نشر بجريدة ضد السلطة 
في 2013/04/18 

lundi 8 avril 2013

الرّحيل وقت الأصيل

سكــــــــــــــــــــــوت ، سيبدأ العرض ...
 انه الخراب يا رفاقي ، أعدّوا ما استطعتم من الأمل لترقصوا على بقايا الحطام و تجنّبوا إغراء الكلام ، إني أسمع أصواتا تناديني الى الغياب و لا طريق أمامي سوى اتباعها. لا ترهبنّكم قتامة الواقع و لا تسعدنّكم صور الأنباء المنمّقة ، فقط ابحثوا عن الحقيقة . لا تنسوا أن تشربوا نخبي إذا غادرتكم  و أن تواسوا حبيبتي ، أرسلوا اليها باقة من الزّهور التي تحبّها و راقصوها في الأصيل كما عوّدتها ، اخلطوا دمعها بغبار رفاتي ، أضيفوا اليها قطرات من دمائكم ، قليلا من النبيذ الأحمر الرّخيص ، اسكبوها قطرة قطرة  على ألسنة المقهورين كي تحرق ، أكتبوا بها وصيّتي على صدوركم  و تعلموا أن ترقصوا في أرض المعركة ، اكتبوا شعركم على ايقاع الرصاص و موسيقاكم لحن البندقيّة و صيحات القصاص ، لا وجود لثورة سلميّة فالتاريخ نتاج للصراع ، تكتبه الأيادي الصّامدة بالدّماء . لذلك حين تريد قراءة التاريخ ، دع جانبا الكتب المدرسيّة و ما في عناوينها من خداع و أساطير بهلوانيّة . ركّز بين السطور و في الهوامش المهملة ، ستمسك طرف الخيط هناك و ستدرك أن الحاضر مجرّد بعد وهمي ، شهاب غير مرئي ، لا يأسس عليه شيء . غدا بداية  يوم جديد و حياة جديدة ، ربما تكون أحسن أو اسوء قليلا ، أعدّوا ما استطعتم من أمل  للمقاومة ، ربّما مازال على هذه الأرض فسحة من الحياة و ماهي الحياة ان لم تكن مقامة أزليّة للرداءة ، و بحثا لا ينتهي عن الحب بعد استنفاذ الحقد داخل الغوغاء ، لذلك ، احفظوا ما أمكن من أغنيات ، فهي زاد للمحارب و اكتبوا مذكّراتكم عن المعارك حتّى و لو كانت خاسرة .
Haut du formulaire
تضيع الأيّام ، سطور نكتبها بأيدينا و لا نحسن قراءتها ، نخوض معركة عابرة ، نجتر أحلاما واهية و نتفرّغ بعد الهزيمة للبكاء ، نشتاق لرائحة الأرض و نمقت طعم المنفى و الجفاء ، نحزم حقائبنا للرّحيل و نظنّه المثوى الأخير ، لكن الطريق طويل و لم يعد في الوطن مكان يقبلني ، في وطني حيث للدمع نهر و للدم نهر و للنفط نهر و ليس فيه للحب نهر ، وطني حيث يموت الأصيل . وطني حيث مات الصبر صبرا ، حيث يبكي الحر قهرا ، حيث يعلو الجوع هرما ، حيث ركّزنا العمائم فوق رؤوس الحمير ، يبني الشعب صرحا للملوك ثم يبيت على الحصير ، وطني حيث للدمع نهر و للدّم نهر و للنفط نهر ، ترى هل لنا فيك قبر ؟ فأنا لا أهوى الرّكوع و العام عام جوع و قيصرنا العظيم يتربّص بجمجمتي ، يريد أن يصنع منها كأسا لنبيذه المقتّر من دماء الأبرياء و أنا لا أهوى الرّياء . وطني متى يكون للحب فيك نهر يغمر جسدي المصلوب على باب المعبد المزيّف ، متى يلقي سيزيف الصخرة عن كاهله و يكتشف أن الآلهة انتحرت تحت قدمي في لحظة يأس منسيّة ، متى يرفع رأسه للسمــــــــــاء ، لقد طال الإنحناء ، وطني ان التاريخ لا يرحم من  يكتفي بالبكاء ، نكتب المراثي على شرف الأصدقاء و نرسو على الأطلال لنحرق ما تبقى من سفن الحروب  و نطمع في السلام و تطهير الذّنوب . نستذكر المجد القريب و ابتسامات الحبيب و خيالات الرفاق حين كانوا يشحذون عزائمنا المجهدة . من هنا مرّوا ، كتبوا وصاياهم على الجدران و انسحبوا ، حملوا حقائب السفر ، أحرقوا دفاتر اليوميّات و الصور ، و استعدّوا للرّحيل الأخير ، و لنا خلفهم نفس المصير .
ما أجمل الموت على أسوارك يا وطني و ما أعذب الدمع حين يداعب شفتي حبيبتي ، قيصرنا العظيم نصب لنا المشانق في السّاحات و أعدمنا أمام نسائنا و سيستعبد أبناءنا عن قريب ، بينما أعناق الرّجال تنحني في تحيّة للغياب و الفجر يعلن عن موت القمر في أدغال السحاب و رفاقنا الحالمون ، ينتظرون في السجون يوم العفو المرتقب ، سيرقصون على أنقاض الخراب الجميل و يشربون نخب وطن عليل ، وطن حيث للدمع نهر و للدّم نهر و للنفط نهر و ليس فيه للحب نهر وطن حيث يموت الأصيل .
                               

vendredi 5 avril 2013

اللّيل المسروق

لا أريد أن أكون رقما في حسابكم و لا عاشقا في سرابكم و لا جنديّ صفّ في معارككم الهامشيّة . أريد فقط أن أحظى بشرف المحاولة لمرّة واحدة فأنصاف الأحلام كوابيس غير معلنة . لا أريد المناورة من أجل بقايا أحلامكم المجهدة ، لا أريد المغفرة منّة تأتي من السّلطان ، لا أريد صكّ الغفران ثمنا لكتمان الألم . أريد حلما كاملا ، بسيطا ، كابتسامة محارب بقي وحيدا بعد المجزرة ، رقصة مجنون بأرض المعركة ، جناح طائر مكسور ينتظر الشّفاء ، دينا على أمل الوفاء ، وردة حمراء تنمو ببهو المقبرة ، دمعة لاجئ يستعد للعودة و يطلب من أرضه المغفرة . أريد حلما حقيقيّا أو هو الحقيقة في ذاتها لا أوهام صفاتها ، أريد كل شيء و لا أريد شيئا ، كتابا و قلما ،حلما ، أرضا للفلاح ، يوم راحة لعمّال المناجم ، جنديا يحمل نايا بدل السلاح ، موسيقى تأجج الذكريات ، فسحة من النكات ، بيتا يؤوي الرّجل الغريب ، قبلة من ثغر الحبيب و قهوة ساخنة في الصّباح ، ساعي بريد دون رقيب و سلّم يرفعني للسماء فأخاطب الله و أشكره . أنا لا أريد أن أصون الماضي مثلكم ، لا أريد أطلالا أنوح على فراق حبيبها و أبني معبدا من الرّمل يعلّم فيه البكاء . من منكم يريد البكاء ؟ للدمع طعم آخر حين يمتزج بسمّ الحقد . من منكم يعرف كيف يموت الوجد في ليل ربيع صوفي ؟ من منكم يعرف رسم الحد و روح الخط الكوفيّ ؟ في مثل هذه الساعات من غفوات الليل المسروقة ، حين يموت الحب بداء القلب ، اشعر أنني مبتذل و حزين . كل بذاءة هذا العالم لا تسكت غيضي ، كل جنون الدنيا لا يحرّك شوقي للرقص . نخاف الموت ، لأننا لم نملك يوما القدرة على الحياة ، نبحث عن بقايا البشري فينا ، عن نبي ضاع قبل تلقّي الرّسالة ، نخوض حروبا ليست حروبنا و نتفرّغ بعد الهزيمة للبكاء . لا تنتظر هبة السماء ، الله ليس قدّيسا يهب العطايا و ليس شيخا غالبه العمر يشتري آخرته بالصّدقات و الرّياء ، الله جوهر المحاربين و من صانوا الكبرياء .
من منكم يريد البكاء ؟ لتجلس على طاولتي ، سأسقيك خمرا صنع من أشلاء البشر المعذّبين ، من دماء الشهداء و دموع الأطفال الأبرياء ، ستشمّ رائحة الفقر و الجوع المهين ، ستشمّ رائحة الشواء البشريّ الصّاعدة من الشارع الكبير و ترى الحمــــــــــــير جالسين على العروش . احتسي كأسك في صمت و لا تنظر لانعكاس وجهك في النبيذ ، ستبصر رغما عنك وجه ابنتك المغتصبة ، دمها الطّاهر و هو يسيل بين فخذيها ، ستتخيّل صرخات بكارتها و تفاصيل اللّذة الكريهة مرسومة على ملامح مغتصبها . لتجلس على طاولتي و لتذرف في لحظات سكرك ما أمكن من دموع ، أمّا أنا فسأكتفي بالحقد ، إنه طعم الحب حين يمتزج بالألم ، لحظة انفتاح الكلم ، حين يخط القلم توقيعي على قصيد يحترق ، حين يضيع الحلم و شهاب الليل يخترق كبد السماء ، عصر المعجزات ولّا و انتهى ، سأبحث عن نفسي داخل نفسي ، و لتنتظر أنت قيام المسيح بمفردك ، لن تبصر عورة الملك ، ما دمت ترفض أن تحترق و تصنع من جسدك شمعة تنير الطريق ، ستبقى نبيّا مزيّفا ، نبيّا تائها بلا رسالة ، ما دمت تخاف الحريق . أنت النبي المنتظر ، عقلك قبسك و زندك هو الصّديق الوحيد ، أترك مناحات الحريم و الوعيد و لتستعد للقتال . تمرّ سهام الغدر ، قدّم لها صدرك وابتسم ، سيغازلك الموت في كل ركن ، ابتسم ، طالع عدوّك دون خوف ، لن يرهبك صوت الرّصاص ، ما عدت تخسر شيء ، سر في طريقك ، لا تهتم ، افتح ذراعك للهوى و اعشق كل نساء الدنيا كما تعشق الأرض و النوى ، أطلق عنانك للجنون ، واجه عدّوك و انتقم ، أكتب وصاياك الأخيرة و ازرع في الأرض الذّخيرة و اسقيها كل ليلة بالدّم ، يا حاملا حلم العدالة فوق ظهرك لا تنم ، ضمّد جراحك بالتراب و استقم ، أحشو سلاحك بالرّصاص أرسل عدوّك للعدم . تحارب في الظلمة بمفردك و لا تعرف من يواجهك ، اختر عدوا يليق بك ، أقتل العدو في داخلك فالقضيّة لن تنتصر بموت الجلاد و إنما حين يتوقف المضطهدون عن لعب دور الضّحيّة ، حين يتوقفون عن الموت دون أسباب منطقيّة ، حين يمتصّون الحقد و الغضب الأبدي و يحولونه إلى وعي يجتاح الشوارع الخلفيّة للمدن العريقة و الأقبية السّحيقة . و لكي يتحقق الحلم ، على هذا الوطن أن ينجب في كل يوم نبيّا و يهديه عند انتصاف الليل قربانا للبشريّة ، يا أنبياء هذه الأرض المتعبة ، أفيقوا ، كونوا فرسانا محاربين ، لتنزعوا رداء الحكمة المبجّلة و الفضيلة المؤجّلة ، استنزفوا ما تبقى من حقد على هذه الأرض فالحب ليس سوى انتفاء الحقد الدّفين ، لتغلقوا المعابد و المساجد و اقيموا الصلاة في قلب المعارك ، إن الله لا يحب الخاملين ، وجهّوا رصاصكم للمارد المتنكّر بينكم ، للنّبي الخائن في صفوف المرسلين ، الجلاد ليس عدّوكم و هذه ليست حربكم ، فلتبحثوا عن حربكم ، و علّموا الإنسان كيف ينكر دور الضّحيّة ، علموا الإنسان كيف يكون عند انتصاف اليل نبيّا. أما ملوك اللّواط و مشائخ البلاط و جلادوهم الذين يحملون في وجوهنا السياط فلا يستحقون من مسدساتكم رصاصة ، سيندثرون كالحشرات حين يعجزون عن التأقلم في صلب العالم الجديد  فهذه الأرض لا تعشق سوى الفرسان .

صفوان الطرابلسي
نشر بجريدة ضد السلطة
05/04/2013