samedi 30 mars 2013

جنازة حب قديم

بين انتفاضات العواصف ، في ليالي الشتاء الهادئة ، تترسّب بقايا الطّين على الأرصفة المتعبة و تبكي عواصم الشّرق . في الأزقّة الخلفيّة للمدن المزدانة ببقايا العيد ، تتصاعد رائحة الجوع و يتقاسم الأهل دفأهم كما يتقاسمون الخبز كل ليلة ، راجين أن تمر السّهرة دون أن يكونوا بحكم العادة ضحايا القدر المشؤوم . تنطلق خفافيش الظّلام ، تصدح صيحاتها الحاقدة ، تمتص دماء راقصة غجريّة حتّى الثمالة و تطلق صرخات الإحتقار معلنة عن انطلاق الجنازة . دون بكاء ، دون كلام ، في كنف الصمت الحاقد ، يأتي المشيّعون قبل الأوان  يؤدّون الواجب عن مضض و يرحلون مسرعين . دون بكاء ، دون كلام يمرّون ، يقدّمون تعازيهم دون أن يختنق في قلوبهم الشّجن فهم لا يحزنون أو ربّما كانوا هم القتلة المأجورون ، يكتمون السر في قلوبهم ، لا يخجلون حين يقرؤون الفاتحة جهرا ، لا ترحّما و إنما تباركا بنفاذ المهمّة بنجاح ثم في سكات يمرّون و لا يسألون حتّى عن الرّاحل هذا المساء ، كل الوجوه في الأزقّة الخلفيّة للمدن العريقة الفاخرة  متشابهة . دون كلام ، دون بكاء يرحل كل الأتقياء المحترمون ، لا يبقى سوى المتسوّلون و من حرّضتهم شهواتهم و الظنون ، جاؤوا ينفثون في بطنها خطايا يومهم ففاجأهم الخبر . يغنّي السكارى لحنا للتأبين و يرقص روّاد الميناء القديم على شرف رحيلها رقصتهم المفضّلة ، أمّا الإمام العجوز فيقف أمام الضّريح ليقرأ الفاتحة ، يبحث عن رزق عياله في الدّعاء ، و يصطنع في آخر الصّورة نغمة البكاء ثم ينسحب في هدوء ، تاركا الإبن اليتيم غارقا في صمته يجتر أذيال الحنين،يتتبع الكلمات و الحركات،بلا مبالاة يقف متوحّدا مع الموت تاركا للوافدين أجر الصّلاة ...
أنا لا أكره الموت ، يبقى رغم كل شيء قدّيسا مبجّلا و هو خاتمة كل محارب . أنا لا أكرهه ، لكنني أحب الحياة أكثر  أو أحاول رغما عنّي أن أحبّها ، اسعى إليها كبدوي تائه في الصحراء يرى سراب الماء . و قد شاءت الصدف ، في حضرة هذا الموت الحقير ، أن أكون الشاهد الوحيد على عادة التعفّن البطيء فوق أرصفة الضّواحي ، كنت الوحيد الذي يبحث عن بقايا الحياة بين المقابر و كنتِ الوحيدة التي تنشدين نداء الحب بشغف المغامر ، تطلقين صرخة بطعم الشهوة المقدّسة ، تصرخين في وجوههم المكسوّة بالتقوة المزيّفة و تنادينهم للنزال ، كنتِ تطلبين المحال و ليس هناك غيري ليلبّي النداء ، نداء الفضيلة القصوى و الخطيئة الكبرى ، ليس هناك غيري ليلعب ورقته الأخيرة قبل الرّحيل و كنت بطبعي المغامر ، كنت أنا القتيل ...
تذكرين الحب ، تبحثين عنه داخل صدري ، ترسمينه وشما لا ينجلي ، تبحرين في ثنايا العشق تاركة لي مجال الإكتشاف . أجهّز خرائطي ، أرسو على قمّة النشوة الغامرة ، أرسم بين نهديك خطّا لسيري ، أنزل إلى منحدراتك النائية ، أطلب بين شفتيك الموت و ابحث بين ضفائرك عن سر الخلود فمنذ الموت الأوّل على صدرك تفتحت ذاتي و مات داخلها الجمود . أفجّر على أرصفة الشهوة سدّ الكتمان العظيم ، تتساوى الأضداد حين أكون بين يديك ، تنعدم الشراسة في الطقوس المتقلبة للطبيعة و تغازل النار الجليد في لحظة وجد موسمية لا أبصرها إلّا في عينيك المتعبتين . تنسكب  دمعة تتلألؤ على ايقاع الشهقات و استرسال النّزيف . أكتب آخر أمنياتي على خدّك بأنامل ترتجف لحظة انسحاب الخريف ، أمدّ يدي إلي الرّيح ، أحاول الصّعود مع أمواج جموحك إلى الجنّة الأبديّة في مقلتيك ، لكنني أسقط في منتصف الطريق فأنا لست ملاكا و لست نبيا ، لست رسولا أو من أولياء الله الصّالحين و لم اقف فوق قبرك يوما لأداء الصّلاة ، فقت أمر عابرا ، خائفا ، اقرء الفاتحة و أختفي ، طيفا خفيف الظّل كما عهدتني . قد يغفر الله خطيئتي يوما فالله يجزي من العباد الطيّبين لكن حرّاس النوايا الطّاهرين أبدا لا يغفرون و ذنبك كان أنكِ عشقتني كالأرض ، كالبحر و الصحراء و رفضت عند تطبيق حكمهم البكاء و الإمام في الجنازة ختم الدعاء ثم قدّم للحضور أجر الصلاة و انصرف ...
بقيت وحيدا ، كنت أحتك بذاتي من بعيد ، أرمق الطفل الوحيد بين ركام الصخور ، أرمق رقص العبيد خلف غيوم البخور ، يضحكون و يهللون لانتصاراتهم الواهية . أحمل الذّنب الثقيل و استعدّ للرّحيل. بلا كلام و بلا بكاء ، أحمل حقائبي المجهدة و مع ليالي هذا الشتاء أغادر محرقة الوطن ، أبحث عن حب يحرقني ، عن أنثى تقتل في جسدي كل الأوطان ، عن ثغر ، عن نهد يغرقني في الفسق ، ينسيني أيّام الحرمان . إنّي ابحث عن حب ينصفني ، عن امرأة تعرفني من اللحظة الأولى و قبل النظرة الأولى تضمّني إلى صدرها ، مثل إبنها ، أنام في سلام و كل صباح أعصر من نهديها الخمر و اشربه حتّى الإدمان . أغادر محرقة الوطن ، لا أترك شيء للذكرى فأنا قررت أن أنسى لتنساني جميع الأحزان ، ساترك روحي للقدر علّه يفهمني ، يهديني الحب درسا ، أدرسه على جسد امرأة أخرى ، غير المحجوزة في الوطن بين النيران ، غير المرميّة في الوكر خلف القضبان ، غير المهووسة بالسفر ، غير المتهومة بالعهر ، غير المدفونة في القبر أو بين حريم السلطان . ابحث عن هذا الوجد الضّائع في غفوات الليل ، اتوقّف عند ضياع القمر ألملم روحي ، أسرق احلاما للذكرى و أداوي على طرقات السفر جروحي ، يرهقني السير ، أتوقف في ساعات السهر و أحاول تعمير ربوعي ، يا سيّد هذا الليل كيف تراني أسكت جوعي ، يحملني السيل و الصمت المرعب في صدري يترصّدني و يطفئ في البرد شموعي ، يغتالني حزني و طريق في البحث طويل ، يا سيّد هذا الليل قد حان موعد هجرتنا فأنا كالطّير ، أبحث عن نفسي في الغربة لأني في وطني غريب ، سأموت بذنب أجهله و خطيئتي أنني صرت للعدم حبيبا و تركت في الوطن حبيب ...      

صفوان الطرابلسي 

mercredi 27 mars 2013

المنتدى الإجتماعي العالمي: ثورية المجتمع المشهدي

 فصل آخر من فصول السياحة الثورية ذلك الذي تستقبله بلادنا هذه الأيام. ألوان مختلفة وأشكال نضاليّة عديدة وجنسيات متعددة و شعارات قزحيّة سعيدة تزيّن صورها صفحات الانترنت والصحف وبعضا من شاشات التلفزات.. كلّ هذا العدد الجميل من الشباب يجتمعون في بلدنا لنصرة "الزوّالي" و الفقراء المعدمين ولإيجاد حلول للتنمية والتهميش والعنصرية والبطالة والحروب الأهلية والتعذيب والتطرّف الديني وسوء التغذية وتفاقم الأوبئة والتجارب النووية.. لتغيير كلّ هذا الواقع الكارثي المرير في حلقات نقاش ومحاضرات تدوم، رغم هول القضايا المطروحة، لمدّة أربعة أيّام في تظاهرة رسميّة تشرف على نجاحها وسلامتها حكومة الوكالة الإستعماريّة ذات الخيارات الإقتصاديّة الليبيرالية ويحميها بوليس النظام.. وقد تتولّد عنها بعض الإتفاقات والتوصيات والبيانات والتنديدات والإستنكارات التي ستواجه قرارات مؤتمر دافوس الحاسمة وتمثّل اللحظة المفارقة في محاربة النظام العالمي الجديد وإسقاطه.. المشهد ساخر جدّا لو تدرون. مشهد السخريّة برمّته يذكّرني بلقطة من فيلم هزليّ نسيت الآن إسمه لكثرة المهازل التي تتابع أمام أعيننا يوما بعد يوم.. في تلك اللقطة من الشريط، ينظر الملياردير الفاحش الثراء إلى مجسّد مشروع مدينته السكنيّة الجديدة ويتثّبت من كلّ مراكز الرفاه ومتطلبات الحياة المدنيّة العصرية من مستشفيات ومدارس وعمارات وطرقات الخ.. ثمّ يأمر مهندسيه بإنجاز شارع كبير مغلق المنافذ وسط المدينة وأن تقع حراسته ومراقبته جيّدا حتى يضمن فضاء للناس للخروج للتظاهر والإحتجاج ضدّه بكلّ حريّة ومتى أرادوا ذلك
       
ينتظم هذا المنتدى/الصالون في نفس الوقت الذي "يهتزّ فيه العالم تحت وقع المظاهرات، والإضرابات، والإعتصامات والانتفاضات العارمة، من بلدان الشرق إلى بلدان الغرب، من الدول المسماة ديمقراطية إلى الدول الديكتاتورية" ففي حين ينتفض مفقّرو الأرض و مهمّشوها لإفتكاك السلطة وتحقيق الكرامة الإجتماعية و العدالة الإقتصاديّة بين الطبقات والبلدان وإعادة موازين النظام وتقرير المصير بيد الشعوب، يكتفي بعض من الإصلاحيين والثوّار العاجزين عن الإلتقاء مع أشكال التنظيمات الريزومية المتأجّجة في الشوارع والميادين، وبعض من سجناء الترتيبات الهرميّة والأشكال الهيكليّة المتكلّسة والإديولوجيات السلفيّة، يكتفون بشرف المشاركة في هذه الصالونات الثقافيّة مدّعين التغيير والفعل من هناك.إن طرق العمل والتنظيم التي تطبع سير هذا المنتدى منذ سنواته الأولى وصولا إلى مراحل الإعداد له بتونس وإستحواذ البيروقراطيّة النقابيّة المتكرّشة على إدارته، هي ذات طرق التنظيم والتمويل والتعبئة التي يعمل من أجلها النظام العالمي الرسمي وتحت طائلة قوانينه ولوائحه التي تدعّي كلّ هذه المنظمات والأطراف المشاركة في هذا الملتقى محاربتها.سنضع أنفسنا مكان المشاركين في هذا المنتدى فنطرح سؤالا لا يُمكن أن يُنطق إلاّ بهذه الصيغة: هل نستطيع أن نرفع الشعارات المناهضة لـ "الإمبريالية الرأسمالية" وننتناقش حول إمكانيّة تطوير "برنامج عمل ثوري عالمي" بالمشاركة في منتدى إجتماعي نظاميّ وبإتّباع نهجه الليبرالي الإصلاحي، أم نقاطع فعالياته الرسميّة ونمرّ مباشرة للعمل على خلق بديل لاسلطوي شعبيّ قاعديّ خارج كل المقاربات البيروقراطية للنقابات المتعفنّة والمنظمات اللقيطة والأحزاب المشعوذة؟إنّه لمِن التغابي أو دعنا نقول من خبث الإنتهازيّة السياسيّة أن لا يتفطّن "رفاق" النضال الإجتماعي المشاركين بكلّ "حماس" في هذا المنتدى الإجتماعيّ إلى نفاذ بارونات رؤوس الأموال وشبكاتهم عبر العالم في تمويل مثل هذه المنتديات وغيرها من الملتقيات التنظيرية الإصلاحيّة بالنظر لكلّ هذه الأموال الضخمة المرصودة للتنظيم من ناحية ولتمويل الجمعيات والمنظمات المشاركة أو مغازلة بعض الحركات المنفلتة و"اللاتنظميّة" والتأثير عليها من ناحية أخرى. فمنهم (الرفاق) من سيواصل إنخراطه في مسرحيّة النضال الأممي مأخوذا بالأضواء الهوليودية للرومانسية الثوريّة، ومنهم من سيوافقنا هذا الرأي ولكنّه سيتعلّل بحجّة التغيير من داخل الهيكل فيجد نفسه رهن التراتيب والإجراءات مكبلا مغلوبا ضائع الصوت وسط حشود من المخدّرين بوهم الإصلاح. ومنهم الآخرون الذين سينسحبون باحثين عن الأسباب من قبيل صهيونيّة بعض المنظمات أو يهوديّة بعض الدول المشاركة متناسين أنّ الأمر لم يعد سرّا أو عارًا قد يخفيه الساهرون على تنظيم هذه المنتديات العالمية المطبّعة مع كلّ شيء.. كلّ هذا وذاك يأتي في إطار برنامج إحتواء شامل وسعي إلى إرساء الوفاق الطبقي والخضوع الإجتماعي الذي تهيمن عليه البورجوازية بآلياتها وأسلحتها المختلفة، فتساهم كلّ هذه الحركات "المقاومة" بمشاركاتها الرعناء في إنجاحه..إن توفـّق النظام العالمي في ترويض مكوّنات الرفض عبر العالم بات أمرا جدّ هام لما يمثّل إستيعاب هذه القوى من ضمان "صمّام أمان" يمتصّ القدرات الثوريّة المتفجّرة والطاقات الحقيقية المؤثرّة ويحتويها داخل فضاءات مغلقة بعيدا عن "خطر" الحراك الجماهيري في الميادين مستغلا في ذلك قصور هذه الحركات عن التفكير في بدائل تنظيميّة جديدة وفي تحيين قراءاتها لواقع المشاكل المتفاقمة اليوم، بعيدا عن كليشيات التنظيم العقيمة وقدسيّة المراجع الإديولجيّة المتزمتة التي حالت ولا تزال دون إيجاد حلول واقعية ناجعة لتثوير الشارع والعمل بتلازم مع صفوف الجماهير في الأحياء المنسيّة والمدن المهمّشة والقرى النائية التي لم و لن يسمع مسحوقيها أبدا عن مثل هذه المهرجانات و الصالونات الديمقراطية
                                                                    
إن رهان قلب نظام رأس المال الفاسد تأكـّد عقمه بمثل هذه الشطحات الإستعراضيّة والتمارين الحركيّة لنضال المخابر والتجريد. فمن مهازل هذه المنتديات المتشدقة بأحلام المفقرّين عبر الأرض أن تقودها بيروقراطيات نقابية متعفنّة متاجرة بدماء الشغّالين ضمن حسابات المحاصصة السياسية القذرة، وتشارك فيها منظمات قانونيّة نظاميّة تخضع في تنظيمها و مراقبتها و تمويلها إلى سلطة الدولة ورأس المال، وتزكّيها أحزاب سياسية يمينيّة أو يساريّة بورجوازيّة متناحرة على السلطة.. هذه الأحزاب -التي لم تعد ترى المسألة الوطنيّة إلاّ عبر صناديق الإقتراع التي كانت أوّل طعنات الغدر في ظهر الثورة- إنمّا تلح على تواجدها في مثل هذه الفرص للقيام بخطوات تكتيكيّة بحتة لحشد ما تبقى من أصوات قد تغرّد خارج السرب الإصلاحي عبر العالم و زجّها في الإنتخابي القادم وللعب أدوار البطولة الثوريّة أمام العدسات بعد أن إنكشفت حقيقة وجوههم القذرة على أرض المعركة.. إن الساعين إلى المشاركة في المهازل الإنتخابية المشروطة، السابقة منها والقادمة، لن يكونوا من أبطال قلب النظام العالمي المتوحش والحراك المجتمعي الدائم إذ هم أوّل المشاركين في تأثيث مسرحه المقسّم الأدوار بين موالاة ومعارضة وأوّل اللاهثين المسعورين إلى إعتلائه كراسيه.. فهل يمكن لبطارنة السياسة ومراهقي الإعلام وسلفيي الأيديولوجيات و "متشعبطي" المجتمع المدني أن يكونوا نواة التثوير من داخل ورشات عمل نظاميّة مدجنّة تفصلها عن الشارع مئات السنوات الضوئيّة؟؟إنّ تجارب الثورات الشعبيّة و الحراك الإجتماعي المغيّر التي شهدتها بلادنا وتشهدها العديد من بلدان العالم أمام هذا التآكل لنظام الرأسمالي العالمي لهي أكبر دليل عن عجز المعارضة الثقافية عن خلق المفارقة التاريخيّة، فعندما يجد هؤلاء الثرثارين وثوريي الصالونات والبرلمانات أنفسهم وجها لوجه في الحياة الواقعية أمام الثورة فإنهم لن يدركوها أبدا. فأي بوصلة لا تدّل على التنظّم الذاتي لجماهير المفقرين والعمّال وتصرّفهم في الموارد و الثروات كخطوات أولى في سبيل إزالة السلطة هي بوصلة واهمة تصوّر وهم الحلول الإصلاحية، بالرغم من إتخاذها بعدا عالميا، حتميّة تاريخيّة لحلول ما يسمّونه الإنتقال الديمقراطي والذي ما فتئ يذهب بنا في واقع مؤسف إلى الوراء
            
منقول عن صفحة " مـــولـــوتـــوف 


vendredi 15 mars 2013

جهاد مبروك


 
حينما أعلمه المحامي بالحكم الصّادر في حقّه ، لم يتفاجئ كثير ، كان الأمر متوقّعا و قد حضّر نفسه جيّدا لهذا الإحتمال ، اليوم يبدأ فصل جديد من فصول نضاله المرير في سبيل حرّية هذا الوطن . ابتسم في وجه القدر السّاخر ، لقد هزمه في هذه المعركة لكن الحرب مازالت في بدايتها و الطريق شاق و طويل . " كل من ماتوا و سوف يموتون على باب النهار ، عانقوني ، صنعوا منّي ... قذيفة " ، تذكّر رفاقه الذين رحلوا و من سيرحلون ، لقد تعلّم كيف يستقبل آلامه برحابة صدر و يبكي جرحه في صمت متشبثا بخيط العنكبوت الرّقيق و الأمل الصّاعد في الأفق السّحيق . مرر أنامله على الندبة التي خلّفتها الرّصاصة في عنقه ، شهب من النّار تجتاح المسار الذي سلكته داخل جسده ، يذكر لحظة الرّعب التي جمعته بغريمه ، صوت الرّصاص الذي أردى رفاقه من حوله ، دماؤهم التي سالت على الرّصيف و لطّخت قميصه ، صيحات ألمهم الحاقدة ، تضرّعاتهم عند الرّمق الأخير و عجزه المرير أمام فوّهة البندقيّة . لا داعي للخوف من صوت الرّصاص ، الرصاصة التي تقتلك لن تسمع صوتها . أحس بيد تربّت على كتفه و قبل أن يرى الشخص الغريب سكن كل شيء و توقّف الكون لبرهة ، رعشة لذيذة في القلب و سهم يخترق العنق. الرصاصة التي تقتلك تسلبك كل الحواس لكنّها ان أخطأت الهدف تذيقك سوء العذاب و ينحل الجسد كالسراب لكنّك لا تنال شرف الرّحيل الأخير . سقط على الأرض ، تلقّفته بشغف عاشقة بربريّة ، كم كان يشتهي أن يقبّلها ، أن يرمي بنفسه على صدرها و يمتص رحيق اللوز الذي خضّب ثدييها ، كم كان يشتهي أن ينام في هدوء ، فراق الحياة صعب ، هو لا يكره الموت لكنّه يحب الحياة أكثر . لم يكن مستعدا لفراق ضحكة أخته ، دمعة أمّه و بريق الرّضا في عين أبيه  لم يكن مستعدا لهجر حبيبته و ترك أخيه ، لم يكن مستعد للتفريط في دماء رفاقه و الثأر من أعدائه و لهذا صمد كما صمد من غدرهم الرّصاص قبله . رفع رأسه ، أراد أن يرى وجه قاتله قبل الرحيل لكن هذا الأخير أدّى المهمّة و انصرف . لم يكن له مع الموت موعد قبل الأوان ، مازال في الجسد قليل من الروح ، قليل من الطاقة و كثير من الإرادة و الصّمود . وقف بشق الأنفس أحس ببعض السعادة رغم الإرهاق ، كشخص تعلّم السباحة عند الغرق ، سار عدّة أمتار إلى أن تلقّفه ملاك آدميّ حمله بين ذراعيه الى أقرب دوريّة للجيش . في المستشفى العسكري ، حقنه المبنّج بحقنة المخدّر و هو يهمس في أذنيه " أنت بطل يا بني ، واصل نطق الشهادتين حتى ينفذ مفعول المخدّر ".
إلى هنا انتهى الجزء الأول من قصّة جهاد مبروك ، هذا الشاب الثائر ، و لا أرى فائدة من إتمام الجزء الثاني فجميعنا يعرف جيّدا المعاناة اليوميّة لجرحى الثورة و عائلات الشهداء ، جميعنا نعرف طعم الدمع و معنى البكاء . لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن جهاد اليوم صار من اصحاب السوابق بمباركة حماة الثورة المجيدة ، حكم بثلاث أشهر من السجن و غرامة ماليّة قيمتها مائتي دينار في إطار قضيّة كيدية تحت عنوان تخريب ممتلكات خاصة و قد جاء هذا  في اطار وقفة احتجاجية ضد أحد رموز الفساد الذي شاءت الأقدار و بمحض الصدفة أن يكون المتضرر في قضيّة الحال . حسمت المعركة بسرعة جنونيّة و بشكل فجئي دون حتى الإستماع لشهود الجاني الضحيّة و للتنويه فقط فان هذه القضيّة ليست الأولى من نوعها فقد أحيل جهاد في الصائفة الماضية على المحكمة العسكرية بتهمة التهرب من الواجب الوطني .
بالتالي فان ما يعيشه جهاد مبروك من مضايقات هو عمليّة ترهيب ممنهج ، و محاولة لإخضاعه و اخضاع كل الأصوات الحرّة في هذا الوطن ، جهاد مبروك سيسجن لأنه رفض المتاجرة بدمه و دماء رفاقه ، لأنه كان حاضرا في كل التحرّكات الشعبيّة المطالبة بالكرامة و الحرّية و العدالة الإجتماعيّة ، و رغم حالته الصّحيّة السيّئة لم يترك منبرا إلا ووقف فاضحا سماسرة الدماء و حقوق الشهداء ، أصحاب البدلات السوداء الفاخرة في وزارة إذلال الانسان و مجلس الخيانة و النسيان .
سيسجن جهاد مبروك ، كما سجن من قبله صابر المرايحي و شباب الثورة في الكاف و سليانة و المكناسي ، لا عليكم هؤلاء الشباب يعرفون معنى الصّمود ، لقد كانوا أحرارا ولا يزالون حتى و لو أغلقت في وجوههم قضبان السجون، أما نحن فماذا ترانا سنكون ؟ هل تعرفون؟
مجرّد شياطين خرس قذرين ، قد لا نكون المذنبين الرّئيسيين لكننا لسنا ابرياء ، يأسنا خيانة و صمتنا جزء من الجريمة .  

صفوان الطرابلسي
نشر بجريدة ضد السلطة
16/03/2013  

vendredi 1 mars 2013

الحبس كذّاب و صابر غدوة يروّح



حينما سألت عن فحوى الاستدعاء ، أخبروها أن الأمر هيّن ، بضع كلمات في ما يخص قضيّة قديمة متعلّقة بحادث مرور . اتصلت بصابر على الفور و أعلمته بالموضوع و ترجّته بأن يأتي مسرعا حتى يغلق الملف و يخفف من هلوسات أمه ، فشكّة إبرة في أحد أبنائها كافية لتحرمها من النوم لليال . قرر الشاب النزول إلى العاصمة مسرعا و العودة الى عمله بالدهماني في ذات اليوم ، كان على أبواب التّرسيم و ليس مستعدا لتلقي أي ملاحظة من مرؤوسيه ، لقد جاهد و ذاق الأمرّين من أجل الحصول على هذه الوظيفة . رافقته أخته ، دخل التحقيق و هو يظن أنه سيدلي بإفادته في بضع دقائق و يغادر ، لكن الأمر طال و الأخت تنتظر خارج المكتب مستغربة قبل أن يرن هاتفها و يعلمها أحد الأعوان أنه سيتم التحفّظ على صابر و من المستحسن أن يسرعوا للاتصال بمحام  . في البداية كانت تظنّها مزحة ثقيلة من مزاحات أخيها لكن النبرة الجديّة للمتكلّم بددت شكوكها . كارثة بأتم معاني الكلمة ، كيف تمالكت نفسها في تلك اللحظات ؟ كيف لكائن أن يتحمل مثل هذه الصدمة ؟ لقد كانت و لا زالت الى اليوم امرأة عتيدة من نساء هذا الوطن ، لا أعرف كيف واتتها الجرأة لتخبر عائلتها وتواسيهم  و من أين تأتي اليوم بتلك القوّة الجبّارة في نضالها من أجل فك أسر أخيها . ربّما هو ذلك الحقد الذي تولّد في صدرها عندما رأتهم يسحبونه مكبّلا الى سيّارة الشرطة ، لقد حافظت عليه داخل قلبها و جعلته زادها لأنها تعرف جيّدا أن الحقد سيّد المنتصرين .
"و ضعوا على فمه السلاسل ، ربطوا يديه في صخرة الموتى و قالوا أنت قاتل " ، أغلقوا في وجهه الزنزانة ، حرموه من لمسة أمه الحنون ، ضحكة أخته الصّاخبة ، حرموه حتى من عتاب أبيه و قبلة مسروقة من خد حبيبة عابرة . تراه اليوم يجلس في ركن من أركان الغرفة المظلمة ، يتقاسم مع الباقين ما تيسّر من هواء ، يدخن بشهيّة هوجاء و يجتر الذكريات محاولا أن يصمد و أن لا يفقد الثقة ببراءته و حكمة الله ، محاولا أن لا يفقد الثقة بعائلته و أصدقائه الذين يبذلون ما بوسعهم من أجل نصرة قضيّته . كان كل ليلة يجلس وحيدا ، و حين تجتاحه الخيبة يناجي الظلام بكلمات ضائعة لدرويش " تنسى كأنك لم تكن / تنسى كمصر طائر / ككنيسة مهجورة تنسى / كحب عابر / و كوردة في الليل ... تنسى " ، في السابق كان يردد هذه الكلمات و هو يدخن سيجارة في شرفة البيت يخمد حرقة قصّة حب فشلت ، أم اليوم فهو يرددها و يحاول أن يخمد ألم الغدر و حرقة وطن يضيع و ثورة بدأت تأكل اولادها و أبطالها .
من سيقرأ هذه الكلمات سيظن أنني مهتم باقتباس سيناريوهات الدراما التركيّة الرّخيصة ، لكن للأسف ، إنها حقيقة هذا الوطن و حقيقة شعبه المتعب و ثورته المسلوبة . صابر المرايحي شاب ابن حومة شعبيّة ، إبن سينا الكبّاريّة بالتحديد ، عمره 25 سنة ، سيسجن لـ 20 عاما و قضيّته الآن معطّلة في يد محكمة التعقيب ، التهمة الحقيقة هي المشاركة في الثورة و مساهمته في حماية أبناء وطنه أيام "الليالي الزّرقة " كما كنّا نسمّيها ، أما التعلّة فهي محاولة قتل و أقصى تجليات المهزلة تتلخّص بأن من يتهمه بمحاولة قتله عون أمن و دليله على ذلك هي وصفان هزيلان للجاني و قد ذكر أن من اعتدى عليه كان أبيض البشرة و يرتدي نظّارة و فيديو مصوّر في يوم آخر شوهد فيه صابر هو رفاقه أيّام الثورة يشتمون و يسبّون البوليس .
حين سأل أفراد العائلة هذا البوليس عن سبب اتهامه لصابر و هو يعرف جيّدا أنه بريء ، أجابهم بكل برودة دم " لازم فمّا شكون يخلّص " أي ما يهم حقا هو الثأر بل ابخس من هذا ما يهمه حقا هو التعويض ، حتى ولو كان على حساب شخص بريء .
لذلك من يظن أن المعني بهذه القضيّة هو صابر نفسه فهو إما غبي أو يتغابى و على فكرة صابر ليس الوحيد الموقوف على خلفيّة أحداث الثورة ، مئات الشباب يقبعون في السجون اليوم بتهمة الثورة بينما تغيب عنهم أعين الحقوقيين و الاعلام لانشغالهم بالتجاذبات السياسية القذرة و ربّما كان صابر أوفرهم حضا و ربّما كان نبيّهم ، علّ قضيّته تفتح الباب و تلفت نحوهم الأنظار .
في النهاية لا أريد أن أواسي عائلة صابر و لا أريد أن أواسي أخته سامية المرايحي لأنني متأكد أنها تحمل في عروقها دم البربريّة و في قلبها حنان السيّدة المنّوبيّة ، إنها ببساطة إمرأة تونسيّة ، امرأة بألف رجل . الحبس كذّاب و صابر غدوة يروّح ، لكن العزاء الحقيقي وجب توجيهه لشعب يقتل ثورته يوما بعد يوم و سيكتشف بعد فوات الأوان أنه قتل آخر أمل للنجاة من الجحيم الذي يتّقيه

صفوان الطرابلسي 
نشر بجريدة ضد السلطة 
2013/03/02

 
 إعداد و تصوير مجموعة " مولوتوف "