بين انتفاضات العواصف ، في ليالي
الشتاء الهادئة ، تترسّب بقايا الطّين على الأرصفة المتعبة و تبكي عواصم الشّرق .
في الأزقّة الخلفيّة للمدن المزدانة ببقايا العيد ، تتصاعد رائحة الجوع و يتقاسم
الأهل دفأهم كما يتقاسمون الخبز كل ليلة ، راجين أن تمر السّهرة دون أن يكونوا
بحكم العادة ضحايا القدر المشؤوم . تنطلق خفافيش الظّلام ، تصدح صيحاتها الحاقدة ،
تمتص دماء راقصة غجريّة حتّى الثمالة و تطلق صرخات الإحتقار معلنة عن انطلاق
الجنازة . دون بكاء ، دون كلام ، في كنف الصمت الحاقد ، يأتي المشيّعون قبل الأوان
يؤدّون الواجب عن مضض و يرحلون مسرعين .
دون بكاء ، دون كلام يمرّون ، يقدّمون تعازيهم دون أن يختنق في قلوبهم الشّجن فهم
لا يحزنون أو ربّما كانوا هم القتلة المأجورون ، يكتمون السر في قلوبهم ، لا يخجلون
حين يقرؤون الفاتحة جهرا ، لا ترحّما و إنما تباركا بنفاذ المهمّة بنجاح ثم في
سكات يمرّون و لا يسألون حتّى عن الرّاحل هذا المساء ، كل الوجوه في الأزقّة
الخلفيّة للمدن العريقة الفاخرة متشابهة .
دون كلام ، دون بكاء يرحل كل الأتقياء المحترمون ، لا يبقى سوى المتسوّلون و من
حرّضتهم شهواتهم و الظنون ، جاؤوا ينفثون في بطنها خطايا يومهم ففاجأهم الخبر .
يغنّي السكارى لحنا للتأبين و يرقص روّاد الميناء القديم على شرف رحيلها رقصتهم
المفضّلة ، أمّا الإمام العجوز فيقف أمام الضّريح ليقرأ الفاتحة ، يبحث عن رزق
عياله في الدّعاء ، و يصطنع في آخر الصّورة نغمة البكاء ثم ينسحب في هدوء ، تاركا الإبن
اليتيم غارقا في صمته يجتر أذيال الحنين،يتتبع الكلمات و الحركات،بلا مبالاة يقف
متوحّدا مع الموت تاركا للوافدين أجر الصّلاة ...
أنا لا أكره الموت ، يبقى رغم كل
شيء قدّيسا مبجّلا و هو خاتمة كل محارب . أنا لا أكرهه ، لكنني أحب الحياة
أكثر أو أحاول رغما عنّي أن أحبّها ، اسعى
إليها كبدوي تائه في الصحراء يرى سراب الماء . و قد شاءت الصدف ، في حضرة هذا
الموت الحقير ، أن أكون الشاهد الوحيد على عادة التعفّن البطيء فوق أرصفة الضّواحي
، كنت الوحيد الذي يبحث عن بقايا الحياة بين المقابر و كنتِ الوحيدة التي تنشدين نداء
الحب بشغف المغامر ، تطلقين صرخة بطعم الشهوة المقدّسة ، تصرخين في وجوههم
المكسوّة بالتقوة المزيّفة و تنادينهم للنزال ، كنتِ تطلبين المحال و ليس هناك
غيري ليلبّي النداء ، نداء الفضيلة القصوى و الخطيئة الكبرى ، ليس هناك غيري ليلعب
ورقته الأخيرة قبل الرّحيل و كنت بطبعي المغامر ، كنت أنا القتيل ...
تذكرين الحب ، تبحثين عنه داخل
صدري ، ترسمينه وشما لا ينجلي ، تبحرين في ثنايا العشق تاركة لي مجال الإكتشاف .
أجهّز خرائطي ، أرسو على قمّة النشوة الغامرة ، أرسم بين نهديك خطّا لسيري ، أنزل
إلى منحدراتك النائية ، أطلب بين شفتيك الموت و ابحث بين ضفائرك عن سر الخلود فمنذ
الموت الأوّل على صدرك تفتحت ذاتي و مات داخلها الجمود . أفجّر على أرصفة الشهوة
سدّ الكتمان العظيم ، تتساوى الأضداد حين أكون بين يديك ، تنعدم الشراسة في الطقوس
المتقلبة للطبيعة و تغازل النار الجليد في لحظة وجد موسمية لا أبصرها إلّا في
عينيك المتعبتين . تنسكب دمعة تتلألؤ على
ايقاع الشهقات و استرسال النّزيف . أكتب آخر أمنياتي على خدّك بأنامل ترتجف لحظة
انسحاب الخريف ، أمدّ يدي إلي الرّيح ، أحاول الصّعود مع أمواج جموحك إلى الجنّة
الأبديّة في مقلتيك ، لكنني أسقط في منتصف الطريق فأنا لست ملاكا و لست نبيا ، لست
رسولا أو من أولياء الله الصّالحين و لم اقف فوق قبرك يوما لأداء الصّلاة ، فقت
أمر عابرا ، خائفا ، اقرء الفاتحة و أختفي ، طيفا خفيف الظّل كما عهدتني . قد يغفر
الله خطيئتي يوما فالله يجزي من العباد الطيّبين لكن حرّاس النوايا الطّاهرين أبدا
لا يغفرون و ذنبك كان أنكِ عشقتني كالأرض ، كالبحر و الصحراء و رفضت عند تطبيق حكمهم
البكاء و الإمام في الجنازة ختم الدعاء ثم قدّم للحضور أجر الصلاة و انصرف ...
بقيت وحيدا ، كنت أحتك بذاتي من
بعيد ، أرمق الطفل الوحيد بين ركام الصخور ، أرمق رقص العبيد خلف غيوم البخور ،
يضحكون و يهللون لانتصاراتهم الواهية . أحمل الذّنب الثقيل و استعدّ للرّحيل. بلا
كلام و بلا بكاء ، أحمل حقائبي المجهدة و مع ليالي هذا الشتاء أغادر محرقة الوطن ،
أبحث عن حب يحرقني ، عن أنثى تقتل في جسدي كل الأوطان ، عن ثغر ، عن نهد يغرقني في
الفسق ، ينسيني أيّام الحرمان . إنّي ابحث عن حب ينصفني ، عن امرأة تعرفني من
اللحظة الأولى و قبل النظرة الأولى تضمّني إلى صدرها ، مثل إبنها ، أنام في سلام و
كل صباح أعصر من نهديها الخمر و اشربه حتّى الإدمان . أغادر محرقة الوطن ، لا أترك
شيء للذكرى فأنا قررت أن أنسى لتنساني جميع الأحزان ، ساترك روحي للقدر علّه يفهمني
، يهديني الحب درسا ، أدرسه على جسد امرأة أخرى ، غير المحجوزة في الوطن بين
النيران ، غير المرميّة في الوكر خلف القضبان ، غير المهووسة بالسفر ، غير
المتهومة بالعهر ، غير المدفونة في القبر أو بين حريم السلطان . ابحث عن هذا الوجد
الضّائع في غفوات الليل ، اتوقّف عند ضياع القمر ألملم روحي ، أسرق احلاما للذكرى
و أداوي على طرقات السفر جروحي ، يرهقني السير ، أتوقف في ساعات السهر و أحاول
تعمير ربوعي ، يا سيّد هذا الليل كيف تراني أسكت جوعي ، يحملني السيل و الصمت
المرعب في صدري يترصّدني و يطفئ في البرد شموعي ، يغتالني حزني و طريق في البحث
طويل ، يا سيّد هذا الليل قد حان موعد هجرتنا فأنا كالطّير ، أبحث عن نفسي في
الغربة لأني في وطني غريب ، سأموت بذنب أجهله و خطيئتي أنني صرت للعدم حبيبا و
تركت في الوطن حبيب ...
صفوان الطرابلسي