أنهى جولته المعتادة، صفر اليدين
كالعادة مع بعض الوعود العابرة، توجه إلى المحطّة ، المراقبون يملئون المكان و لا
يريد الّدخول في جدال عقيم ، رغم أوضاعه الصّعبة يجدّ في الحفاظ على مظهره و
احترام الناس له، فهؤلاء الفتية الذين يركبون رفقته الحافلة قد يكونون في
المستقبل القريب تلاميذه و هناك من كانوا فعلا تلاميذه لأشهر أو أسابيع . الحافلة
لن تنطلق قبل ربع ساعة، بحث عن كشك ليقتني بعض السجائر لكنّه سرعان ما تراجع عن
الفكرة، لم يبقى في جيبه سوى الدينارين الذين تركتهم والدته قبل ذهابها إلى العمل،
الخالة جليلة، حنونة و ساذجة كباقي الأمّهات في حيّهم. يبدو أنه سيعود إلى "
التمرميد " في حظائر البناء عن قريب، لن يقبل أن يعيش من عرق أمه التي جاوزت
الستّين و مازالت إلى اليوم عاملة نظافة في المعهد، تذكّر السنة الدراسيّة الماضية
عندما أعلمته أن استاذ عربية تمتع براحة طويلة المدى و أنها ترجت المدير حتى يقبله
كمعوّض، خرج ذلك الصباح منشرح الأسارير لكنه سرعان ما حوّل وجهته ، افكاره
السّلبيّة عكّرت مزاجه فجأة. ماذا سينادونه؟ السيّد حسام أستاذ اللغة العربيّة أم
ذلك المعوّض إبن الخالة جليلة عاملة النظافة، اجتاحته ذكريات صباه، كان يدرس في
المعهد الملعون، " ولد جليلة الفام دو ميناج ". تذكّر أول ايّامه حين
دخل المرحاض فواجهها ، تلك اللحظة التي بدأ فيها صراعه الأزلي مع الألم. تذكر صراخ
المدير في وجهها حين تهمل العمل و كانت أمقت ذكرياته تلك الحادثة المقززة حين تشكى
أحد أساتذته من قذارة القسم فدعاها المدير إلى إعادة تنظيفه بينما لم ينتبه أحد
لوجوده بين التلاميذ في الصّف، كان يجلس في آخر القسم، غاص في مقعده و أحس برغبة
في التقيّئ، لا من الخجل بل من الحقد و مرارته، تمنّى لو أنّه يملك القدرة لمحقهم
، الأساذ ، المدير و كل التلاميذ ، كل شاهد على ذلّه ، لكنّه يدرك جيّدا ضعفه. قرر
الهرب ، صار يتغيّب عن حصص الدرس ، تعلّم التّدخين و " التكلفير "
خلف سور المعهد ، بدأت تتكاثر مشاحناته مع زملائه و الأساتذة حتّى قرروا طرده
نهائيا لو لا توسلات أمه التي طلبت نقله إلى معهد آخر بمركز الولاية .
تمكّن
من تجاوز فترة المراهقة بأخف الأضرار و ربّما مثّلت تلك العقد حافزا للمثابرة و
النجاح رغم قدراته المتواضعة لكن الرّغبة في تغيير وضعهم المادي تركت داخل قلبه
جرحا لا يندمل مهما طال الزمن و هذا الجرح مازال يتعمّق و ينزف كلما طالع عجزه
المتواصل و خيبته التي لا تنتهي ، كل أمنياته صارت تتلخص في لقمة عيش كريمة تحميه
و أهله من الذّل و الهوان ، المثل يقول " خدمة النهار ما فاها عار "
لكنه لم يعد يؤمن بهذه الخزعبلات ، قسوة الحياة سلبته كل إيمانه بالمثاليّات و لم
يعد له ثقة في المستقبل، الخيبة المستمرّة قتلت أحلامه و أغرقته في مستنقع الواقع
، لم يعد يطالب بشيء سوى لقمة عيش كريمة و قارّة " مسمار في حيط " ،
تريحه من عذاب التشتت و الفقر . عاد إلى البيت منهكا ، لم يعد الأهل من العمل بعد
، فتح التلفاز علّه يجد ما يسلّيه قليلا
صفوان الطرابلسي
نشر بجريدة ضد السلطة
2013/07/05
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire